تقدير موقف

مُعادَلاتُ الحُكْمِ الجَديدِ في سوريا!

مَرَّ عامٌ على سُقوطِ نِظامِ بَشّار الأَسَد، ومَرَّ أُسْبوعٌ على قَرارِ مَجْلِسِ الشُّيوخِ الأَميركيِّ بِإِلْغاءِ "قانونِ قَيْصَر"، وأَصْبَحَتْ سورْيا في وَضْعٍ جَديدٍ على المُسْتَوى الدَّوْليِّ والإِقْليميِّ يُفْتَرَضُ أَن يُساعِدَها في جَلْبِ الاسْتِقْرارِ والأَمانِ لِلشَّعْبِ السّوريِّ وإِيجادِ مَكانٍ لائِقٍ داخِلَ المَنْظومَةِ الدَّوْلِيَّة.

مُعادَلاتُ الحُكْمِ الجَديدِ في سوريا!

الحَقيقَةُ أَنَّ البَعْضَ في عالَمِنا العَرَبيِّ ما زالَ مُتَأَثِّرًا بِشِعاراتِ النِّظامِ السّابِقِ في تَقْييمِهِ لِلنِّظامِ الجَديد، وما زالَ يَعْتَبِرُ أَنَّ هُناكَ نِظامًا مُمانِعًا / مُقاوِمًا مُناهِضًا لِلاسْتِعْمارِ وإِسْرائيلَ قد سَقَط، وبِالتّالي أَو بِالنَّتيجَةِ يَعْتَبِرُ أَنَّ النِّظامَ الجَديدَ صَنَعَتْهُ أَميرْكا وتَدْعَمُهُ إِسْرائيل، وأَنَّ خِيارَ الاعْتِدالِ الذي تَبَنَّتْهُ الإِدارَةُ السّورِيَّةُ الجَديدَةُ جاءَ لِيُجْهِضَ مَشاريعَ المُقاوَمَة.

نظام الأسد كرّس شرعيّته واستمرار حُكمه بالتفاهم مع الدولة العبرية

والحَقيقَةُ أَنَّ هَذا الطَّرْحَ يُمَثِّلُ عَكْسَ ما جَرى على أَرْضِ الواقِع، ولا يُمْكِنُ اعْتِبارُ نِظامِ "آلِ الأَسَدِ" نِظامًا مُقاوِمًا وأَنَّ خِياراتِ الاعْتِدالِ لِلحُكْمِ السّوريِّ الجَديدِ يُمْكِنُ الاخْتِلافُ مَعَها، بَلْ ونَقْدُ جَوانِبَ مِنْها، ولَكِنْ لَيْسَ على أَرْضِيَّةِ أَنَّهُ نِظامٌ حَليفٌ لِأَميرْكا يُريدُ أَن يُطَبِّعَ عَلاقاتِهِ مَعَ إِسْرائيلَ في مُقابِلِ نِظامٍ آخَرَ واجَهَها، لأَنَّ الاعْتِدالَ الجَديدَ في دِمَشْقَ يُمَثِّلُ حالَةَ اتِّساقٍ غَيْرِ مُعْتادَةٍ مَعَ النَّفْس، فاعْتِدالُ النِّظامِ المُعْلَنِ هُوَ تَقْريبًا اعْتِدالُهُ نَفْسُهُ غَيْرُ المُعْلَن، في حينِ أَنَّ النِّظامَ السّابِقَ مارَسَ قَدْرًا هائِلًا مِنَ التَّدْليسِ والكَذِبِ وفَعَلَ في الواقِعِ عَكْسَ ما قالَهُ في العَلَن.

لَقَد مَثَّلَ نِظامُ الأَسَدِ واحِدًا مِنَ النُّظُمِ القَليلَةِ التي ادَّعَتْ صِفاتِ المُقاوَمَةِ والنِّضالِ ضِدَّ إِسْرائيل، في حينِ أَنَّهُ كَرَّسَ شَرْعِيَّتَهُ واستِمْرارَ حُكْمِهِ بِالتَّفاهُمِ مَعَ الدَّوْلَةِ العِبْرِيَّة، وتَعرَّضَ أَحْيانًا لِضَرَباتٍ أَغْلَبُها كانَ نَتيجَةَ "اخْتِراقاتٍ سَلِسَةٍ" أَو وِشاياتٍ مِن داخِلِ النِّظامِ مِن دونِ أَن يَرُدَّ بِطَلْقَةٍ واحِدَة؛ لأَنَّهُ كانَ مَشْغولًا بِقَتْلِ شَعْبِهِ بِالبَراميلِ المُتَفَجِّرَة.

صَحيحٌ أَنَّنا في العالَمَيْنِ العَرَبيِّ والإِسْلاميِّ شَهِدْنا نُظُمًا واجَهَتْ إِسْرائيلَ بِصَرْفِ النَّظَرِ عن أَدائِها ومَدى الاتِّفاقِ والاخْتِلافِ مَعَها، فَنِظامُ عَبدِ النّاصِرِ واجَهَ إِسْرائيلَ حَقيقَةً في ساحَةِ المَعارِك، وأَخْطَأَ وأَصابَ وانْتَصَرَ في 56 وهُزِمَ في 67، ولَكِنْ كانَتْ شِعاراتُهُ ومَواقِفُهُ وتَوَجُّهاتُهُ مُتَّسِقَةً مَعَ ما يَقومُ بِهِ في الواقِعِ بِصَرْفِ النَّظَرِ عن تَقْييمِنا لَها. ومَوْقِفُ نُظُمٍ مِثْلَ صَدَّامَ حُسَيْنَ والقَذَّافي واجَهَتْ قَوْلًا وفِعْلًا إِسْرائيلَ بِصَرْفِ النَّظَرِ عن خَطاياها، والنِّظامُ الإيرانِيُّ واجَهَ إِسْرائيلَ دِفاعًا عن مَشْروعِهِ العَقائِديِّ والسِّياسيِّ والنَّوَويِّ وطُموحاتِهِ الإِقْليمِيَّة، وحَرَكَةُ "حَماسَ" واجَهَتْ إِسْرائيلَ وحارَبَتْها بِصَرْفِ النَّظَرِ عن المَوْقِفِ مِن عَمَلِيَّةِ 7 أُكتوبَر/تِشْرينَ الأَوَّلِ "المُخْتَلَفِ عَلَيْها"، و"حِزْبُ اللهِ" واجَهَ إِسْرائيلَ فِعْلًا بِصَرْفِ النَّظَرِ عن حِساباتِهِ وأَسْبابِهِ واعْتِراضِ غالِبِيَّةِ اللُّبْنانِيّينَ على حَرْبِهِ المُنْفَرِدَةِ التي خاضَها تَحْتَ مُسَمّى "حَرْبِ الإِسْناد".

النظام الساقط في سوريا أسّس منظومة حُكم طائفية هدفُها قهر السوريين لا تحرير الجولان ومحاربة إسرائيل

لَقَدِ اخْتَلَفَ العالَمُ العَرَبِيُّ بِدَرَجاتٍ مُتَفاوِتَةٍ حَوْلَ هذِهِ التَّجارِب، وحَتّى التَّجْرِبَةُ الأَكثَرُ اسْتِقامَةً وإِنْجازًا وتَمَتَّعَ زَعيمُها بِشَعبِْيَّةٍ جارِفَةٍ واستِثنائِيَّة، وهيَ تَجْرِبَةُ عَبْدِ النّاصِر، لَم تَكُنْ أَيْضًا مَحَلَّ اتِّفاق. والقيمَةُ الأَساسِيَّةُ التي ظَلَّتْ باقِيَةً حتّى بَعْدَ انْتِهاءِ التَّجْرِبَةِ هِيَ اتِّساقُها مَعَ نَفْسِها وشِعاراتِها، وهوَ على عَكْسِ تَجْرِبَةِ النِّظامِ السّاقِطِ في سورْيا الذي ادَّعَى المُقاوَمَةَ مِن دونِ أَن يَعْرِفَها، وأَسَّسَ مَنْظومَةَ حُكْمٍ طائِفِيَّةٍ هَدَفُها قَهْرُ السّورِيّينَ لا تَحْرِيرُ الجولانِ ومُحارَبَةُ إِسْرائيل.

ومِن هُنا لَم يَكُنْ غَريبًا أَنْ يَكونَ اسْتِهدافُ إِسْرائيلَ لِمَواقِعَ انْتِقائِيَّةٍ في عَهْدِ بَشّار الأَسَد غالِبِيَّتُها العُظْمى إِيرانِيَّةً أَو لِـ"حِزْبِ الله"، وتَرَكَتْ جَيْشَ الأَسَدِ مِن دونِ مَساس؛ لأَنَّهُ كانَ جُزْءًا مِنَ التَّفاهُمِ مَعَ قادَتِه. وهذا على عَكْسِ ما نَشْهَدُهُ الآن، فَقَدْ عادَت دَوْلَةُ الاحْتِلالِ عَقِبَ سُقوطِ الأَسَد واستَهْدَفَتْ ما تَبقّى مِنَ الجَيْشِ السّورِيّ؛ لأَنَّها تَعْرِفُ أَنَّ النِّظامَ الجَديدَ لَيْسَ جُزْءًا مِنَ التَّفاهُماتِ التي أَجْراها بَشّار الأَسَد مَعَ "عَدُوِّهِ المُعْلَن"، على الرَّغْمِ مِن اعْتِدالِ النِّظامِ الجَديدِ وحِرْصِهِ على التَّوْقيعِ على اتِّفاقٍ أَمْنِيٍّ "يَتَّقي شَرَّ إِسْرائيلَ" ولا يُؤَدّي إلى تَطْبيعِ العَلاقاتِ مَعَها طالَما ظَلَّت تَحْتَلُّ الجولان.

نظام بشار كان جزءًا من المدلّسين وليس المقاومين

ما سَقَطَ في سوريا لَيْسَ مُجَرَّدَ نِظامٍ مَحَلَّ خِلاف، إِنَّما التَّدْليسُ والكَذِبُ وادِّعاءُ بُطولاتٍ وَهْمِيَّة، وهوَ في حَدِّ ذاتِهِ إِنْجازٌ كَبير، وأَنَّ المَطْلوبَ مِنَ العالَمِ العَرَبيِّ أَنْ يَعْرِفَ النّاسُ حَقيقَةَ كُلِّ نِظامٍ وتَوَجُّهاتِه، ولا يُقَيِّموا النِّظامَ الجَديدَ على أَنَّهُ نِظامٌ مُعتَدِلٌ جاءَ على حِسابِ نِظامٍ مُقاوِمٍ ومُمانِع.

نَعَم، هُناكَ مُعْتَدِلونَ يُحاوِلونَ اسْتِعادَةَ الحُقوقِ العَرَبِيَّةِ بِالأَدَواتِ والضُّغوطِ السِّياسِيَّة، وهُناكَ المُتَشَدِّدونَ الذينَ يُحاوِلونَ اسْتِعادَةَ الحُقوقِ بِالقُوَّةِ والسِّلاح، وكِلاهُما واضِح. ولَم يَكُنْ بَيْنَهُما نِظامُ بَشّارَ الذي كانَ جُزْءًا مِنَ المُدلِّسينَ ولَيْسَ المُقاوِمين.

يَقينًا هذِهِ القِراءَةُ لا تَمْنَعُ مِن قِراءَةِ هذا التَّغْييرِ الكَبيرِ الذي جَرى في سورْيا بِشَكْلٍ نَقْدِيّ، بِالقَوْلِ مَثَلًا إِنَّ هَذا الانْفِتاحَ على العالَمِ يَحْتاجُ إلى انْفِتاحٍ مُماثِلٍ في الدّاخِل، يَتِمُّ فيهِ دَمْجُ أَبْنَاءِ المُكَوِّناتِ الأُخْرى في مُؤسَّساتِ الدَّوْلَةِ الجَديدَةِ بِالطَّريقَةِ نَفْسِها التي تَمَّ فيها دَمْجُ الأَكْثَرِيَّة، وهيَ أُمورٌ تُناقَشُ بَعيدًا عن الأَكاذيبِ التي رَوَّجَها النِّظامُ السّابِقُ عن نَفْسِه.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن