تقدير موقف

الجنيه المصري والكرامة الوطنية (1/2)

يربط الكثيرون في مصر بين الجنيه والكرامة الوطنية ويتعاملون مع عملتهم كأنها رمز من رموز البلاد، كالأهرامات أو المنتخب الوطني لكرة القدم، وبالتالي يرون أي تراجع لقيمة الجنيه بمثابة هزيمة وطنية، وكثيرًا ما يعزّز الخطاب العام للمثقفين والمعارضة، خاصة من غير الاقتصاديين، هذا المنظور الذي كان تاريخيًا في بعض الأحيان يُمثّل ضغطًا على صانع القرار في تعامله مع الجنيه، أكثر تأثيرًا من الدواعي الاقتصادية الموضوعية.

الجنيه المصري والكرامة الوطنية (1/2)

لكن الجنيه مثل مثله أي عملة ليس رمزًا للكرامة الوطنية، وقيمة العملة ليست بالضرورة هي المعيار الأهم للنجاح الاقتصادي، رغم أنها أحد المعايير، فدولة الكويت عملتها الدينار الأعلى قيمة في العالم، وليس معنى ذلك أنّ الاقتصاد الكويتي أنجح وأقوى اقتصاد في العالم رغم أنه اقتصاد ثري بالتأكيد، كما أنّ الدرهم عملة الإمارات أنجح اقتصادات الخليج يعادل نحو عُشر قيمة الدينار الكويتي رغم تشابه ظروف البلدين مع امتلاك الإمارات لاحتياطات مالية أكبر واقتصاد أكثر تنوّعًا. والين الياباني يعادل بالسعر الرسمي خُمس الجنيه المصري، وليس معنى هذا أنّ الاقتصاد المصري أقوى من نظيره الياباني.

هذه المقدّمة ضرورية لفهم إحدى الإشكاليات التاريخية للتعامل مع الجنيه المصري، وهي التركيز على محاولة تثبيته ليس فقط لحماية المواطن من التضخّم، بل أيضًا لاعتبار ذلك مؤشرًا للنجاح أو الاستقرار الاقتصادي.

فرغم أنّ استقرار العملة أمر ضروري لإيجاد اقتصاد قابل للتنبؤ وتضخم تحت السيطرة، ولكن الاستقرار يختلف عن التثبيت التعسفي.

سعر الجنيه المقوّم بأعلى من قيمته كان عامل إضعاف إضافيًا للمنتجات المحلية

فخلال العقود الماضية، عمدت السياسة النقدية المصرية إلى تثبيت سعر الجنيه المصري، باعتبار ذلك مؤشرًا على نجاح البنك المركزي، ولكن هذا التثبيت كان له آثار تراكمية على الجنيه ومجمل الاقتصاد.

فعادةً، كل تثبيت يستمر لعدة سنوات يكون ثمنه استنزاف الاحتياطات النقدية، كما يتسبب مع التضخم السنوي المرتفع، في تزايد تكلفة المنتجات المحلية والصادرات مقابل صعود تنافسية الواردات الأجنبية.

وخلال العقود الماضية، كانت الصين وتركيا على سبيل المثال (وهما إلى حد كبير أهم منافسين للمنتجات المصرية في السوق الداخلية وفي بعض أسواق الاستيراد) تشهدان انخفاضًا في أسعار عملتهما (طوعًا في حالة بكين وقسرًا في حالة أنقرة) بشكل أتاح لصادراتهما التوسّع.

في المقابل، بينما عانت المنتجات المصرية من مشكلات عديدة بسبب السياسات الاقتصادية والعيوب التقليدية في طبقة رجال الأعمال المصريين، ولكن إحدى المشكلات التي جرى تجاهلها لحد كبير أنّ سعر الجنيه المقوّم في كثير من الأحيان بأعلى من قيمته كان عامل إضعاف إضافيًا للمنتجات المحلية.

وعلى سبيل المثال، فإنّ مصر لديها إنتاج مستواه لا بأس به في صناعة الأجهزة الكهربائية والمنسوجات، ورغم أنّ هذين القطاعين بهما العديد من المشكلات التي لا محل لذكرها الآن، بجانب مشكلات السياسات الاقتصادية العامة، ولكن إحدى نقاط الضعف الاساسية لهذين القطاعين كانت في كثير من الأحيان هي التسعير المرتفع، والذي كان دومًا يجعلها أغلى من المنتجات التركية والصينية.

وفي هذا السياق، سبق أن طرح الاقتصادي المصري البارز هاني توفيق قبل الأزمة الحالية للجنيه (عندما كانت قيمته 15.5 أمام الدولار) اقتراحًا بأن يُترك الجنيه ينخفض أمام الدولار سنويًا بقيمة تتراوح بين 7 إلى 10%، وهي تمثّل الفارق بين التضخم في مصر والولايات المتحدة صاحبة الدولار، لضمان أن يحافظ المنتج المصري على تنافسيّته السعرية.

وبينما يُنظر لمثل هذا التخفيض المحدود أنه إهدار لكرامة الجنيه، وإطلاق لعنان التضخم، لكن الترجمة الواقعية أنّ هذا التخفيض معناه، ارتفاع أسعار الواردات بنسبة انخفاض الجنيه ذاتها، وهي نسبة ليست كبيرة، وبالتالي لن تحدث قفزة كبيرة بالتضخّم، ولكنها في المقابل تتيح للمنتج المحلي المنافسة، كما أنّ الصادرات المصرية مقوّمة بالدولار سوف تنخفض أسعارها بنسب مقاربة، مما يقوي تنافسيّتها.

بالطبع هذا الطرح يقابَل عادةً باعتراضات كثيرة، ولكن الواقع أنّ هذا الطرح لو طُبّق منذ سنوات لساهم ضمن سياسات مطلوبة أخرى في تجنيب الجنيه، تراجعه الكبير الحالي.

تؤدي سنوات منع الجنيه من التراجع أو الصعود البسيط إلى كبت موجة من الانخفاض تنفجر عند وقوع أي أزمات

وخلال عام 2016، نفذت مصر تعويمًا قاسيًا بعد أزمة شبيهة بالأزمة الحالية، أدى ذلك لخفض العملة المحلية من نحو 9 جنيهات لكل دولار إلى 18، ولكن هذا التعويم قضى على السوق السوداء في ذلك الوقت، وخلق فترة من الاستقرار، وبدأ الاقتصاد يستوعب الموجة التضخمية الكبيرة التي خلقها هذا الانخفاض، ولكن في الأعوام التالية ارتفع سعر الجنيه إلى 15.5 مقابل الدولار، وهو تخفيض تم هندسته غالبًا من قبل البنك المركزي، الأمر الذي قلّل تنافسية المنتجات المصرية في الداخل والخارج، وصاحب ذلك سعر فائدة مرتفع جعل مصر قبلة مضاربي الأموال الساخنة الذين استفادوا من سعر الفائدة المرتفع للغاية مقارنة بالتضخم، ومن صعود الجنيه، قبل أن يغادروا فور حدوث الأزمة الأوكرانية تاركين الجنيه في محنته، بعد أن حققوا مكاسب كبيرة.

صعود الجنيه هذا الذي تحقق بين عامي 2017 وبداية 2022، مع سعر الفائدة المرتفع كان مضرًا بالمنتجين، ولا سيما المصدّرون، وهو ما يُعد سببًا من ضمن أسباب متعددة للأزمة الحالية.

هذه الظاهرة متكررة في تاريخ مصر الحديث، فخلال العقود الماضية، تؤدي سنوات منع الجنيه من التراجع (أو الصعود) البسيط وفقاً لمؤشرات الاقتصاد، إلى كبت موجة من الانخفاض تنفجر عند وقوع أي أزمات، وهو ما حدث عدة مرات في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وكان كثير من هذه الأزمات بسبب عمليات إرهابية تضر بالسياحة.

فكبح الهبوط البسيط التدريجي يشبه حجز تيار ضئيل من المياه بسد متخلخل، وبينما كان يكون السد قادرًا على منع القطرات المنسابة، فإنّ تراكمها يخلق كتلة ضاغطة محتجزة تنفجر فور أن يتعرّض السد لأي عامل ضغط خارجي. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن