تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى استعانة الولايات المتّحدة الأمريكية في حربها على العراق سنة 2003 ببعض المختصين في علم الاجتماع والأنثربولوجيا مثل ديفيد كيلكولن (Kilcullen) ومونتغمري ميكفايت (Micfate) وأسماء أخرى، بحيث لم تكن تلك الاستعانة حالةً معزولةً، وإنّما كانت توجّهًا ثابتًا في نطاق الاستفادة من أعمال الخبراء ومراكز البحث والخبرة والاستشراف.
من نتائج تبخيس العلوم الإنسانية في العالم العربي ضعف الاعتمادات المادية لمشاريع البحوث بالحقول المعرفية
يبدو العالم العربي على النقيض من ذلك تمامًا، إذ يُنظر إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية نظرةً دونيًة لا تخلو من "تقزيم" وتبخيس قائمة على المفاضلة بين العلوم الإنسانية والعلوم التجريبية والدقيقة، ويجري ذلك حتّى داخل الفضاء الأكاديمي والجامعي الذي من المفترض أن يكون الأحرص على تجنّب التصوّرات التجزيئية التحيّزية، وتكريس النظرة الكلّية أو التكاملية. وقد كان من نتائج ذلك التبخيس، ضعف الاعتمادات المادية المخصّصة لمشاريع البحوث المرتبطة بتلك الحقول المعرفية، وترهّل هياكل البحث القائمة عليها.
هذه الوضعية امتدادٌ لتهميش أوسع شمل مختلف جوانب المنظومة التعليمية والتربوية والثقافية، بدليل ما يُلاحظ من تفاوت كبير في "الضوارب" المسندة بين المواد العلمية والمواد الأدبية والدينية والاجتماعية، واختلال الزمن المدرسي في برامج التعليم الإعدادي والثانوي لعديد الأنظمة التربوية العربية.
لعلّ من المؤشّرات المؤكّدة للمنزلة الدونية للعلوم الإنسانية والاجتماعية بالعالم العربي نوعية حركة النشر العلمي ومداها. ففي بلد عريق الثقافة مثل تونس لا يتجاوز عدد النسخ المطبوعة لكتاب ما في الإنسانيات والدراسات الإسلامية خمسمائة نسخة، يبقى جلّها حبيس الرفوف أو حكرًا على القارئ المختصّ من طلبة الدراسات العليا والباحثين الجامعيين، وذلك بالرغم من أنّ تلك الكتب المنشورة في غالبيتها رسائل جامعية لنيل شهادات عليا في الماجستير والدكتوراه والتأهيل الجامعي، أفنى أصحابها أجمل سنوات عمرهم لإنجازها، وتكلّفت أموالًا طائلةً على المجموعة الوطنية ليصل أصحابها إلى ذلك المستوى العلمي المرموق.
تشي تلك المؤشّرات وغيرها بوجود قصور معرفي في صياغة السياسات العامة تسبّب في تجاهل فرص الاستفادة من خبرات العلوم الإنسانية والاجتماعية لا سيّما أنّ بعض اختصاصاتها العلمية لا تقتصر على الجانب النظري، وإنّما تستوعب كذلك البحوث الميدانية مثل الدراسات السوسيولوجية بمختلف تفرّعاتها واتّجاهاتها.
لا يمكن تفسير ذلك القصور إلاّ في ضوء الجهل المركّب واستفحال التصوّرات الأداتية لدى واضعي سياسات تدبير المجال العمومي، كما لا يمكن إغفال تأثير الثقافة السياسية السائدة فهي في أغلبها ثقافة تتغذّى من المخيال، وتزهد في مواكبة التطوّرات، بل قد لا ترى فائدة أصلًا من الاطّلاع على تلك البحوث وقراءتها بما أنّها في نظرها لا تعدو أن تكون "فضلة" أو حشوًا أو ترفًا أكاديميًا في أحسن الأحوال.
تفصح الاستهانة بالأدوار الممكنة للعلوم الإنسانية والاجتماعية في تحقيق التغيير الحضاري الإيجابي عن نزعة تبسيطية تفصل بين التحوّلات العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية، والتحوّلات الفكرية وترسيخ الفكر النقدي والمنهج المركّب في معالجة القضايا الكبرى مثل التنمية ونوعية المناويل المعتمدة اقتصاديًا وتربويًا واجتماعيًا وثقافيًا. إذ لا يمكن مراكمة الرأسمال المادي وتنمية الثروة دون تطوير للرأسمال الرمزي والثقافي وحُسن استثماره لخلق دعامة فكرية وثقافية صلبة. وهو ما يعني ضمنيًا أهمية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تكوين ذهنية قادرة على الإبداع وتهيئة الأرضية السوسيوسياسية للإقلاع الحضاري المنشود. فهي من هذا المنطلق بمثابة النواة الأساسية التي تتأسّس عليها بقية التحوّلات الحضارية والثقافية.
ارتجالية المشهد العربي وليدة عوامل مركّبة من أبرزها الذهول عن الاستئناس بخبرات العلوم الإنسانية والاجتماعية
يمكن في ضوء ما أشرنا إليه آنفا، قراءة أزمة الواقع العربي الراهن قراءة مغايرة لا تربط أسباب أزمته بعوامل خارجية، وإنّما كذلك تفسّرها بصفتها نتاجًا لتوجّهات خاطئة لم تستطع النفاذ إلى جوهر التحدّيات المطروحة وبلورة خيارات بديلة في مستوى سياسات تدبير الشأن العام ومخطّطات تنفيذها في المجالات الحيوية التي لها تأثير بيّن في تربية الإنسان العربي على قيم المواطنة والتعدّدية والاعتراف.
إنّ الارتجالية الطاغية على المشهد العربي العام وليدة عديد العوامل المركّبة، لعلّ من أبرزها الذهول عن الاستئناس بخبرات العلوم الإنسانية والاجتماعية. فكم من مؤتمرات وندوات عُقدت وبحوث حبّرت لكنّها ظلّت منسية مهملة، بينما تثبت عديد التجارب التاريخية الناجحة استحالة تعميق النظر في القضايا الكبرى وتوسيعها للوصول إلى نتائج في مستوى الآمال المعقودة والرهانات المطروحة، دون أن تكون الثقافة السياسية السائدة مبنية على أسُسٍ علميةٍ متينةٍ وروافد ثقافية متنوّعة. فذلك ممّا لا غنى عنه لصياغة سياسات النهوض الحضاري الحقيقي.
(خاص "عروبة 22")