تقدير موقف

الصناديق السيادية تبدأ رحلة العودة من المهجر!

تُعدّ الصناديق السيادية ظاهرة اقتصادية من اختراع عربي بهدف استثمار فوائض النفط في الخارج بالأساس، لصالح الأجيال القادمة، حيث بدأتها الكويت عام 1953، ثم تلتها العديد من الدول العربية النفطية، وعادت الصناديق السيادية العربية بقوة للمشهد مدفوعة بارتفاع أسعار الطاقة، والأهم أنها مدعومة بخبرة واسعة بعضها أليم جراء خسائرها في أزمة 2008 المالية، كما يرافقها تحوّل لدى عدد من دول الخليج لتوظيف الصناديق السيادية كجسر لجلب التكنولوجيا والمهارات وحتى رأس المال للأسواق المحلية، أي أنها تستجيب لدعوة قديمة لعودة الأموال العربية المكدّسة في الأصول الغربية، فهل توفّر هذه العودة ربحية أكبر للصناديق السيادية العربية وهل تجعلها مساهمًا في التنمية بالمنطقة؟

الصناديق السيادية تبدأ رحلة العودة من المهجر!

صناديق الثروة السيادية (SWF) هي صناديق أو ترتيبات استثمارية مملوكة للحكومة العامة  لاستثمار الفوائض المالية بطريقة أقرب للشركات الخاصة وعلى مدى طويل نسبيًا، وخارج الحدود الوطنية غالبًا، ولا يشمل المفهوم، احتياطات النقد الأجنبي المملوكة للسلطات النقدية لتحقيق أغراض متعلقة بميزان المدفوعات والسياسة النقدية.

حجم أصول الصناديق السيادية العربية

تمتلك صناديق الثروة السيادية (SWF) أكثر من 11.5 تريليون دولار من الأصول في فبراير/شباط 2023، حسب دراسة نشرت في موقع springer الأمريكي للنشر الأكاديمي.

يبلغ مجموع أصول الصناديق الخليجية نحو 3913.5 مليار دولار عام 2022، بنسبة 40.34 % من الصناديق السيادية الرئيسية في العالم، وفقًا، لبيانات تم تجميعها من معهد صناديق الثروة السيادية حول العالم SWFI، بالأساس إضافة إلى منصة Statista الألمانية، وموقع اقتصاد الشرق مع بلومبيرغ.

60% إلى 80% من استثمارات الصناديق العربية في الخارج.. وأغلبها في الدول الغربية

ويبلغ مجموع أصول الصناديق الإماراتية الأربعة 1545 مليار دولار بنسبة 39.48% من مجمل الصناديق الخليجية، مما يجعل الإمارات متفوّقة في حجم مجمل صناديقها السيادية على النرويج والثانية في العالم بعد صناديق الصين، أما الهيئة العامة للاستثمار الكويتية فتبلغ قيمة أصولها نحو 750 مليار دولار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودية 650 مليارًا، وجهاز قطر للاستثمار 475 مليارًا.

ويقدّر أنّ أصول الصناديق السيادية تعادل نحو 385.6% من الناتج المحلي الإجمالي ل‍دول الخليج.

ويعتقد أنه في مجمل الصناديق السيادية لا سيما العربية، فإنّ 60% إلى 80% من الاستثمارات في الخارج، أغلبها في الدول الغربية، بما في ذلك حصص في بعض أكبر شركات العالم، حسبما ورد في تقرير لموقع "اقتصاد الشرق مع بلومبيرغ".

مقارنة بين أهم تجربتين عربيتين والتجربة النرويجية

تظهر مراجعة أداء الصناديق العربية أنّ معدّل ربحية صندوق النرويج كانت على الأرجح أقلّ من الصندوق الكويتي والصناديق الإماراتية في العقود الماضية.

ولكن خلال السنوات الأخيرة تحديدًا ربحية الصندوق النرويجي أعلى في الأغلب من الصناديق العربية، وجزء من ذلك نابع من استثماره في صناعة النفط المحلية المربحة، إضافة لتوسّعه بالاستثمار بالأسواق الناشئة خاصة دول أوروبا الشرقية.

التغيّرات في نمط استثمارات الصناديق السيادية الكبرى في العالم

كانت الصناديق السيادية منذ نشأتها تركز بشكل كبير على الاستثمار في الأوراق المالية الحكومية مثل السندات الأمريكية مع توجّه أقلّ نحو الاستثمار بأسهم الشركات الخاصة.

ولكن الصناديق السيادية أصبحت أكثر جرأة، حيث تظهر الإحصاءات، أنها تتوجّه أكثر للاستثمار المباشر، خاصة في التكنولوجيا والبنية الأساسية، والطاقة والصناعات والأصول المالية، بما في ذلك الصناديق العربية، كما تتوجّه أكثر للأسواق الناشئة (لا سيما الأسواق الآسيوية) خاصة الإمارات.


الصناديق الخليجية باتت أكثر جرأة وخبرة

صناديق الثروة السيادية في الخليج باتت أكبر وأكثر خبرة مما كانت عليه في عام 2008، حسب وصف صحيفة Financial Times البريطانية، فبعد أن خسرت، نحو 350 مليار دولار، من استثماراتها في الغرب خلال أزمة عام 2008، بدأت مرحلة جديدة مدعومة بفوائض النفط والغاز بالسنوات الأخيرة.

فمن بين أكبر 10 مستثمرين سياديين نشاطًا في عام 2022، كان خمسة من منطقة الخليج، وفقًا لموقع Global SWF.

فبناءً على الخبرة السابقة، فإن المستثمرين الإماراتيين يتحرّكون بتمهّل وينتظرون مزيدًا من الانخفاض في قيمة الأصول الخارجية قبل شرائها، حسب الصحيفة البريطانية، ولكن تركيزهم أيضًا على الاستثمار بالتكنولوجيا وجذب مثل هذه الاستثمارات لداخل البلاد، ونفّذ القطريون استثمارات مهمة بمجالات الرياضة والإعلام وصناعة السيارات.

أما صندوق الاستثمار السعودي، الذي كان لاعبًا هامشيًا خلال عام 2008، فقد خضع لعملية تجديد جذرية منذ تولي الأمير محمد بن سلمان منصب رئاسة الصندوق في عام 2015.

وانتهج الصندوق خطوة أكثر جرأة عبر زيادة رأسماله من خلال إبرام قروض، كما يتحوّل أكثر نحو شراء الأسهم بدلًا من السندات، مع اتباع سياسات أكثر استباقية للأسواق وأحيانًا أكثر جرأة.

استثمر الصندوق خلال السنوات الماضية، في مجموعة من الشركات الدولية، بما في ذلك "أوبر" للنقل.

في خطوة لافتة، باع الصندوق معظم أسهمه في شركة تيسلا الأميركية العملاقة للسيارات الكهربائية صاحبة أكبر قيمة سوقية بين شركات السيارات العالمية عام 2020، بدا القرار في ذلك الوقت غير حكيم حيث واصلت أسهم تيسلا الارتفاع لبعض الوقت، ولكن فقاعة تيسلا يبدو أنها انفجرت، حيث تراجعت أسهم الشركة عن سقفها القياسي.

في المقابل، اشترت السعودية 60% من أسهم شركة لوسيد (LCDX) الأمريكية للسيارات الكهربائية قبل خروج أي سيارة من مصنعها، ولكن مُعترف بها كمنافس رئيسي لتيسلا، هذا يجعل أسهمها رخيصة نسبيًا، وواعدة.

على الصناديق السيادية التركيز على "دول المستوى الثاني" من الاقتصادات الناشئة

وهذا يوفر شيئًا أهم من الأرباح، أنه يجعل السعودية قادرة على جذب استثمارات الشركة للمملكة، وبالفعل وقعت لوسيد اتفاقًا في مايو/أيار 2022، مع الرياض لبناء مصنع بالمملكة، وستستفيد الشركة من إنتاج السعودية المحلي من الألمنيوم والبلاستيك في صناعة سياراتها.

الخلاصة والتوصيات

يمكن وصف مجمل تجربة الصناديق السيادية الخليجية في الاستثمار الخارجي بأنها ناجحة بدرجات متفاوتة، خاصة أنها جنّبت تريلونات الدولارات من الضخ في الاقتصادات المحلية الريعية لأغراض استهلاكية، ولكنها لم تكن بمثل ربحية الصندوق النرويجي. في المقابل، فإنّ تجربة الصناديق الخليجية أقلّ نجاحًا في عملية جذب الاستثمارات للداخل وللمنطقة، ولكنها تحاول الآن التحوّل لجذب التكنولوجيا والاستثمارات للاقتصادات الوطنية، ولكن لا يجب أن يكون على حساب المبادئ الاقتصادية السليمة باعتبار أنّ جزءًا أساسيًا من فلسفة الصناديق السيادية يقوم على الربح باعتبارها احتياطات للأجيال القادمة تحسّبًا لانتهاء عصر النفط.

كما يجب على الصناديق السيادية المضيّ قدمًا في التركيز على ما يمكن تسميته بدول المستوى الثاني من الاقتصادات الناشئة مثل الهند وتركيا وإندونيسيا وبنغلاديش (وكذلك بعض الاقتصادات العربية التي يتوفر بها فرص جيدة مثل مصر والمغرب) التي توفر فرض استثمار وهناك مؤشرات على توسّع خليجي، خاصة إماراتي، في تركيا ومفاوضات لشراء أصول مصرية.

يمكن توقّع أنّ الصناديق الخليجية لو نقلت جزءًا من استثماراتها بالغرب بشكل مدروس للاقتصادات الخليجية والعربية غير النفطية المؤهلة، أن تتمكن من تحقيق أرباح أكبر، بالنظر لأن هذه تُعدّ اقتصادات ناشئة، ولكن الأمر يتطلب تطويرًا للبنية التحتية والعلمية في الدول العربية، وسياسات اقتصادية صديقة للاستثمار.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن