غير أن تدبير الشأن التعليمي بالمعنى الحديث لم يتأتَ للمغرب إلا من خلال اطلاعه على الآخر المختلف (صدمة الحداثة)، ومن صدمة الحداثة هذه "علمنا العالم الحديث أن نتواجد بسمات لا تعكس جوهر ذاتنا، بل سمات الآخر بالمعنى الثقافي (باتريك سافيدان).
من ذلك يمكن أن نميّز في النظام التعليمي بالمغرب بين طورين، الطور ما قبل الحديث حيث كان تدخل الدولة في التعليم محصورًا ومحدودًا، فضاء التعليم الأولي كان هو لَمْسيد (فضاء ملحق بالمسجد لتعليم القرآن) وتتكفل الجماعة بالمعلم الذي كان يؤدي دور الفقيه أيضًا، مع بعض الاستثناءات، حيث نجد يد الدولة تتدخل لبناء المدارس، وتمويلها لفرض برامج دون أخرى، خاصة في العهد المريني، حيث كانت الدولة تحتاج إلى استعمال المتخرجين من هذه المدارس لتوظيفهم كقضاة مثلًا، كما مثلت "جامعة القرويين" نموذجًا لمؤسسة تلقت تأثير سلطة الدولة. ثم الطور الحديث ويمكن أن نميّز فيه طورًا انتقاليًا هو مرحلة الاستعمار حيث كان زرع مقومات الدولة الحديثة ومنها تأسيس تعليم في صورته الحديثة والفرنسية مع جعله في خدمة أهداف الاستعمار.
كان التعدد واللاانسجام داخل النظام التعليمي بالمغرب ذا أبعاد استراتيجية طويلة المدى
في هذه الفترة تميّز التعليم بالمغرب بالكثرة والتعدد وعدم الانسجام وقد كان غرضه خدمة المصالح السياسية والاقتصادية للاستعمار، حيث تمّ تأسيس المدارس الفرنسية، والمدارس الفرنسية البربرية، والمدارس الفرنسية الإسلامية، كما أسست الحركة الوطنية المدارس العربية الحرة التي كانت تموّل أساسًا من تبرعات الشعب المغربي، "وهكذا تهافتت العائلات البرجوازية والارستقراطية التقليدية، على هذا النوع من المدارس (المدارس الفرنسية)" (عابد الجابري). فيما بين 1944-1954 طرأ تحوّل على السياسة التعليمية الفرنسية في المغرب، عن طريق "السماح بفتح مزيد من المدارس العربية الحرّة، وهي المدارس التي حرصت الحركة الوطنية على إنشائها في مختلف أقاليم البلاد"، ومنه كانت بداية التقسيم الطبقي الاستراتيجي للفئات الاجتماعية المغربية: نخبة متمكنة اقتصاديًا تدخل المدارس الفرنسية وتتلقى تعليمًا وثقافة نوعية ومتميزة ومنه تتولى المناصب العليا في البلاد بعد انسحاب السلطات الفرنسية، بل ومنهم من سيصبح مزدوج الجنسية أو الأصل فرنسي/مغربي، ونخبة عربية تدخل مدارس عربية محدودة الإمكانيات والآفاق ومن ثم توجه نحو المهن والوظائف الصغرى في البلاد، مع احتفاظها بهويتها وثقافتها العربية، "لقد كانت هذه المدارس مدارس وطنية فعلًا" كما يقول الجابري.
كان هذا التعدد واللاانسجام داخل النظام التعليمي بالمغرب ذا أبعاد استراتيجية طويلة المدى هدفت بالخصوص إلى ترسيخ الاختراق الثقافي الفرنسي بعد الانسحاب العسكري، وتفكيك المجتمع المغربي قدر الإمكان، حيث قال ليوطي في خطاب شهير له: "فيما واجهنا في الجزائر حتات شعب وحالة لا تجانس، وجدنا بالعكس من ذلك في المغرب أمّة ودولة، ولمواجهة ذلك لجأ المسؤولون الفرنسيون إلى ترديد بدون ملل أو حرج أسطوانة الفوضى المغربية" (عبد الله العروي)، كحالة تُطابق الواقع بعد الاستعمار وليس قبلها، بل اعتُبر ذلك الواقع الفوضوي الهدف الأساس للاستعمار وغايته، "ولذلك عملت العديد من الجرائد والنشرات الفرنسية خاصة "Le Bulletin du Comité de l'Afrique français" على ترويج أطروحات الفوضى المغربية وعجز السلطان عن المحافظة على الأمن والانضباط" (Samantha Schmidt) ، و"تتلخص الأطروحات الأساسية لهذا التصور في أنّ المغرب مجتمع يعيش في فوضى شاملة ومستمرة.. وبالتالي يمكن أن يجد الاستعمار مكانه كبديل وحيد وموحد قادر على تجاوز هذه التعارضات المستعصية" (ألبير عياش).
بعد الاستقلال حُددت أهداف حاسمة للنظام التعليمي بالمغرب (التعريب، التوحيد، التعميم ومغربة الأطر) وتم السعي لتحقيقها عبر تشكيل لجان ملكية مختصة، حيث دعت اللجنة الملكية العليا لإصلاح التعليم سنة 1957، إلى توحيد البرامج في جميع أنواع التعليم، وتحديد سنوات الأسلاك الدراسية والتعريب عبر مراحل، غير أنه سنة واحدة بعد ذلك أي 1958 تم تأسيس لجنة ملكية جديدة لإصلاح التعليم، وكان من إسهاماتها معارضة اللجنة الأولى من جهة هيكلة الأسلاك والعودة إلى تدريس الحساب والمواد العلمية بالفرنسية، والاهتمام بالأطر بدل التعميم، واستمر هذا الوضع إلى غاية ثمانينات القرن الماضي حيث تم اعتماد اللغة العربية لتدريس جميع المواد، وبقيت الجامعة المغربية مستثنية من ذلك.
صراع مشحون داخل البرلمان بين فئة فرنكوفونية متنفذة وفئة عربية تواجه بدون أدوات وأسلحة نافذة
في سنة 2018 تمت المصادقة داخل البرلمان المغربي على إعمال مبدأ التناوب اللغوي في التدريس، من خلال العودة لتدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية، والعودة من ثم بالشأن التعليمي إلى مرحلة ما بعد الاستقلال (1958)، تَم ذلك بعد صراع مشحون داخل البرلمان بين المُنتخبين المغاربة، ما بين فئة فرنكوفونية متنفذة تدافع عن أهمية الثقافة الفرنسية وحضورها الاستراتيجي في المغرب، وبين فئة عربية أقل نفوذًا ودعمًا ما زالت تواجه وتجابه ولكن بدون أدوات وأسلحة نافذة، لقد كانت وما زالت مواجهة بدون علم وثقافة، بل بدون أن تكون لها القدرة على جعل العلم ذاته ثقافة.
(خاص "عروبة 22")