بصمات

هل انتهى دور المثقف (2/2)

ثمة سؤال يطرح باستمرار حول علاقة المثقف بالسلطة أو بالقوى النافذة. لم يتعرّض المثقف الليبرالي للاضطهاد والإبعاد من جانب الدولة أو الحاكم في لبنان أو مصر. ولكن السلطات الدينية الكنسية في لبنان كانت متيقظة تجاه الانشقاقات التي أحدثتها الإرساليات البروتستانتية.

هل انتهى دور المثقف (2/2)

وفي مصر تعرّض مثقفون لآرائهم من جانب المؤسسة الدينية الممثلة بالأزهر. وكان أول من تعرّض للمساءلة هو منصور فهمي بسبب رسالته للدكتوراه بعنوان: "أحوال المرأة في الإسلام" عام 1913، فاضطر إلى الانزواء بعد أن اتُّهم بالإلحاد.

وبعد ذلك جُرّد الشيخ علي عبد الرزاق من رتبة العالمية بسبب كتابه أصول الحكم في الإسلام عام 1925، وبعده طُرد طه حسين من الجامعة بسبب كتابه في الشعر الجاهلي عام 1927، والحادثة التي تعرّض فيها كاتب للسجن تتعلق بعباس محمود العقاد الذي سُجن عام 1930 بسبب عبارته "مستعدون لسحق أكبر رأس في البلاد في سبيل صيانة الدستور وحمايته".

إلا أنّ السلطات كانت أكثر تشددًا مع الناشطين الحزبيين. فقد أُعدم "فهد" أمين عام الحزب الشيوعي العراقي عام 1949، وفي السنة نفسها اغتيل حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين. وكانت السلطات اللبنانية قد أعدمت أنطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي بعد محاولة انقلابية في السنة نفسها أيضًا.

تحوّلت اللغة إلى حاجز ينأى باللغة الأكاديمية ومصطلحاتها عن معالجة المشكلات اليومية للمجتمع والسياسة

لكن المرحلة اللاحقة شهدت تبدلات في أنظمة الحكم وخصوصًا بعد اعتلاء العسكريين سدة الحكم. وكان أول بلد عربي تعرّض لثلاثة انقلابات عسكرية في سنة واحدة هو سوريا حتى استقر الحكم للعقيد أديب الشيشكلي الذي استخدم الطيران لقصف التمرّد الذي قام أمام حكمه في جبل دروز.

كان أديب الشيشكلي أول رئيس يحكم بدعم من حزب، هو السوري القومي الاجتماعي. إلا أنه لم يستطع أن يفرض حكم الحزب الواحد فاضطر إلى ترك الحكم فعادت الحياة البرلمانية إلى سوريا. أما انقلاب الضباط الأحرار في مصر فقد كان مختلفًا، ذلك أنّ الضباط كانت لأغلبهم صلات مع أحزاب ومنظمات، "شيوعية" أو "أخوانية" أو على صلة منذ أيام الدراسة مع "مصر الفتاة". منع نظام الضباط الأحرار النشاط الحزبي، إلا لجماعة الأخوان المسلمين، ثم انقلبت الجماعة على الضباط، فانقلبوا عليها وأُعدم قادتها عام 1954. أقام الضباط الأحرار نظام الرأي الواحد وفرضوا القيود على كل الآراء التي تعارض أو تنتقد إجراءاتهم، بما في ذلك تأميم الصحافة وفرض رقابة الدولة على النشر. وزج النظام بمعارضيه بالسجن مانعًا أي نشاط حزبي مدشنًا دولة الحزب الواحد والرأي الواحد.

وقفز الضباط إلى السلطة في العراق عام 1958، ونشبت الصراعات بين الشيوعيين والبعثيين، وفي عام 1963، صار حزب البعث هو الجهة الحزبية الأكثر نفوذًا في العراق حتى استقرت له السلطة عام 1968، وفي سوريا عام 1970 استقرت السلطة لحزب البعث بعد صراعات مريرة بين أجنحته.

وانتقلت عدوى الانقلابات العسكرية إلى اليمن والجزائر والسودان وليبيا. وفُرضت أحكام الطوارئ والرأي الواحد. وكانت الثقافة هي الضحية الأولى لهذه الأنظمة. التي كانت تقمع الرأي الآخر، وتفرض إعلام النظام وتُلحق الصحافة بوزارة الاعلام، وتفرض رقابة صارمة على النشر، عدا عن منع النشاط الحزبي، ألحق من هم بمثابة مثقفين من جامعيين واعلاميين وكتّاب بمؤسسات الدولة، وفرضت هذه الأنظمة رقابة قصوى على استيراد الكتب العربية أو باللغات الأجنبية. كما فرضت الرقابة على التعليم الجامعي.

كانت الأنظمة العربية تخشى من الثقافة وأصبحت الموضوعات التي تتصل بالسياسة ومشكلات المجتمع والدين من المحرمات. وقيُّد أصحاب المهن الثقافية باتحادات ونقابات هدفها تدجين العاملين الثقافيين واستيعابهم. أما القلة من الباحثين فقد لجأوا إلى اللغة الأكاديمية المحايدة التي يتم تداولها بين متخصصين. لقد اجتهد هؤلاء الأكاديميون في الحفاظ على مستوى البحث وسط حالة من الحصار والمراقبة. وتحوّلت اللغة التي كانت في النصف الأول من القرن العشرين أداة المثقفين من مفكرين وكتّاب وأدباء للتواصل والتأثير، إلى حاجز ينأى باللغة الأكاديمية ومصطلحاتها عن معالجة المشكلات اليومية للمجتمع والسياسة. كما أنّ هذه اللغة تفتقر إلى القدرة على مخاطبة الجمهور العريض من القرّاء.

بعد عقود من الحصار والمراقبة فقد المثقف دوره النقدي والتربوي

كانت الأنظمة تدّعي بأنها الأقدر على فهم مشكلات الدولة والمجتمع، وأنها أنجزت كل متطلبات النهوض وأنها في سبيل إنجاز ما تبقى من مهمات بناء الدولة، في الوقت نفسه الذي تفرض فيه الرقابة على تناول موضوعات مثل: ترهل التعليم وتدني مستوياته، أو التعرض للفساد في الإدارة والتسّيب وتقديم الولاء على الكفاءة، أو تسلط أجهزة الأمن على حياة المواطنين، إضافة إلى تكبيل عمل القانون والجهاز القضائي.

في ظل الدولة الأحادية وبعد عقود من الحصار والمراقبة فقد المثقف دوره النقدي ودوره التربوي الذي كان له من خلال دفاعه عن قيم الحرية والعدالة الاجتماعية.

والسؤال: كيف يمكن في ظل كل ما نعانيه من استعادة الدور الرائد للمثقف؟.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن