يتنامى الشعور العام بإفلاس النظام العالمي؛ القائم على ترتيبات ما بعد الحرب الباردة، خصوصًا مع التعاطي الأمريكي الأوروبي مع الأزمة الأوكرانية ثم جرائم الحرب في غزّة، والتي عُطلت فيها المؤسسات الدولية أو استُخدمت لتحقيق مصالح الفريق الذي تدعمه الولايات المتحدة، فهل نحن فعلًا على مقربة من الدخول في أتون حرب عالمية لحل تناقضات النظام الدولي؟.. أم أننا نعيش بالفعل أيامها لكن بشكل مختلف عن الحرب العالمية الكلاسيكية التي نشاهدها الآن بأثر رجعي في الأفلام الوثائقية؟.
الحديث عن حرب عظمى له ما يبرّره، نكتفي هنا كإشارة بحديث رئيس هيئة الأركان الألمانية كارستن بروير، الذي قال قبل أيام، إنّ على بلاده أن تكون مستعدة للحرب في غضون خمس سنوات، مرجحًا أنّ تطوّر روسيا حربها إلى ما وراء أوكرانيا، بينما قال الرئيسي الأذربيجاني إلهام علييف، الذي دخلت بلاده في حروب متعددة مع الجارة أرمينية، إنّ العالم قريب جدًا من الحرب العالمية الثالثة، وفي الخلفية نضع حقيقة ارتفاع الإنفاق العسكري العالمي إلى مستويات قياسية في 2023، كدليل آخر على التدهور الأمني بالكوكب.
إعادة هندسة النظام العالمي من خلال مجموعة من الحروب الجزئية والإقليمية التي تُشكّل مفهومًا جديدًا للحرب العالمية
يمكن أن نطرح تصورًا مختلفًا هنا، يقوم أساسًا على تبني مفهوم جديد للحرب العالمية، أي أنّ الحرب العظمى الجديدة تعتمد على إدارة مجموعة من الحروب والأزمات - المنفصلة ظاهريًا - التي يسعى من خلالها فريق دولي لتحقيق مكاسب لا تقل عن السيطرة على النظام العالمي واحتكار أرباحه بشكل كلي، فهنا نرى الهدف نفسه الذي أشعل فتيل الحربين العالميتين السابقتين، لكن الأساليب اختلفت.
نرى أنّ الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تعملان معًا على إعادة هندسة النظام العالمي من خلال مجموعة من الحروب الجزئية والإقليمية التي تُشكّل - عندما توضع بجوار بعضها البعض - مفهومًا جديدًا للحرب العالمية، أي حرب تستغرق مساحات واسعة من العالم وفي أقطار مختلفة، ومنفصلة في أحداثها، لكنها كلّها تصبّ في خانة الرؤية الأمريكية البريطانية الرامية لتحقيق أهداف سياسات الهيمنة على مصائر الشعوب والسيطرة على موارد الكوكب.
من الحرب الأوكرانية الروسية، مرورًا بالحرب الصهيونية على غزّة، وصولًا إلى المواجهة الغربية للسيطرة على مدخل البحر الأحمر، إلى المواجهة الباردة ولكن الخشنة مع الصين، نحن أمام سلسلة من التحركات العنيفة في مجملها من قبل التحالف الأمريكي البريطاني للسيطرة على طرق التجارة العالمية، وإحكام القبضة على النقاط الأكثر حساسية في العالم، وحصار تحركات الصين الرامية لتحويل موقعها للبؤرة المركزية التي تنطلق منها طرق التجارة العالمية وتصب فيها.
تعتمد الرؤية الأمريكية البريطانية على إدارة الصراع مع القوى الثلاث التي تُشكّل خطرًا على مشاريع هندسة العالم سياسيًا في القرن الواحد والعشرين، وهي الصين وروسيا وإيران، لذا يتعامل ذلك التحالف مع موسكو بنظام الاستنزاف والإشغال، استنزاف الاقتصاد الروسي في حرب طويلة الأمد في الفخ الأوكراني، وإشغال نظام بوتين عن مشاريع مد الهيمنة في عدد من المناطق، وهو أمر يبدو فعالًا حتى الآن.
لأنّها في لحظة ضعف تاريخية تتحوّل المنطقة العربية إلى الساحة الأبرز في الحرب العالمية الجديدة
أما إيران فتريد واشنطن/لندن عزلها عن الصين من ناحية، وتقليم أظافرها في الإقليم العربي من ناحية ثانية، لذا تستهدف واشنطن حاليًا أذرع إيران الميليشاوية في المنطقة بضربات محددة ولكن موجعة لسمعة ملالي طهران. التعامل المنفصل مع ملفي روسيا وإيران هدفه الرئيس ضمان عدم قدرة أي من الدولتين على التحالف مع الصين، الخصم الاستراتيجي الأول لمحور واشنطن/لندن، وهو ما يحقق لهما القدرة على إفشال محاولات بكين لإقامة شبكة طرق تجارية عالمية تحت مسمى "الحزام والطريق".
ولأنّ المنطقة العربية تقع وسط هذه التقاطعات كلّها، كان طبيعيًا، وهي في لحظة ضعف تاريخية واستباحة خارجية لم تتحقق منذ عهد الاحتلال المباشر، أن تتحوّل إلى الساحة الأبرز في الحرب العالمية الجديدة، أما كيف تحوّلت إلى هذا الوضع فلهذا حديث آخر.
(خاص "عروبة 22")