اشتغل الفقيه البولندي رافائيل ليمكين، على تاريخ التطهير العرقي والديني، ومنها الجرائم العادية للسامية، خاصّة أنّه يهودي مورس ضدّه عداء ديني وعرقي بشع إبان الحرب العالمية الثانية، كما اهتم بدراسة الوقائع والأحداث التاريخية التي تؤرّخ للعنف الممارس ضد جماعة ما، هذا مما جعله يدعو إلى ضرورة صياغة قانون دولي يقوض العنف الجماعي وارتكاب مجازر ضد جماعة بشرية ما.
حاول ليمكين أن يثير هذا الأمر في المنتديات الدولية والمحافل السياسية والاجتماعية والقانونية، لكن باءت كل محاولاته بالفشل إلى أن غزا جيش هتلر بولندا، مما جعله يلوذ بالفرار للنجاة من خطر النازية المحدق.
وصل إلى الولايات المتحدة الأميركية وتولّى منصبًا جامعيًا في جامعة ديوك. دفعه الأمر هناك إلى توثيق الجرائم النازية حيث ألف كتابًا بعنوان: "حكم المحور في أوروبا المحتلة"، وصكّ في هذا النص مصطلحًا لم تعرفه القوانين والدساتير البشرية من قبل، والحديث عن مصطلح: "الإبادة الجماعية". كما أدرج ليمكين في صحيفة الاتهام في محاكمات نورمبرغ كلمة "إبادة جماعية" ضد قادة النازية، حيث تزامن ذلك مع إبادة جماعية ارتكبها النازيون ضد أفراد عائلته في مراكز الاعتقال.
وقوف أهل الحقول الأكاديمية والثقافية والسينمائية ضد العدوان الإسرائيلي أثار حفيظة إيلوز
الشاهد هنا أنّ ليميكن الذي نحت هذا المصطلح عانى أفراد أسرته مثلما تعاني الأسر والعوائل الفلسطينية إبادة جماعية كل يوم ومنذ عقود طويلة. لكن هل ما يجري لهم فعلًا إبادة جماعية؟ هل ما يرتكبه الصهاينة إبادة جماعية أم هي جرائم حرب فحسب؟
هذا السؤال أثار موجة من الانتقادات، بل حفز الأنثربولوجية الإسرائيلية إيفا إيلوز لكي ترد على مقالة حرّرها الأنثربولوجي الفرنسي ديدييه فاسين، نشرها في موقع مجلة "AOC" الفرنسية تحت عنوان: "هل ترتكب إسرائيل إبادةً جماعيةً"؟
إيفا إيلوز، للتذكير، هي من مواليد مدينة فاس، وصاحبة "حميميات باردة: تشكيل الرأسمالية العاطفية"؛ "لماذا يجرح الحب: تجربة الحب في زمن الحداثة"؛ "نهاية الحب"، والتي لاقت مقروئية واسعة لدى نسبة من القرّاء العرب.
ترى إيلوز أنّ الحرب الدائرة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل أوقعت عددًا كبيرًا من الضحايا من كلا الطرفين. ولم يكن رد فعل المجتمع المدني والرأي العام في الديمقراطيات الأوروبية والأميركية أقلّ إثارة للصدمة. وتضيف: "كنا ندرك أنّ السياسة الإسرائيلية أصبحت لا تهتم كثيرًا بالقانون الدولي. كما نعلم أنّ معاداة الصهيونية غالبًا ما تضمر رفض منح اليهود ما يُمنح لأي شعب آخر، كنا ندرك أنّ الصراع في الشرق الأوسط يمتد إلى الشتات الأوروبي، لكننا نعلم أنّ المذبحة ضد المدنيين الذين كرّس معظمهم حياته لقضية السلام ستستقبل بلامبالاة من قبل المسلمين في جميع أقطار العالم، وكذلك من الأكاديميين والفنانين والمثقفين في العالم الغربي".
الذي أثار حفيظة إيلوز في هذه الجزئية بالذات، هو وقوف أهل الحقول الأكاديمية والثقافية والسينمائية ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، وعملية الإبادة الجماعية التي ترتكب على مرأى ومسمع العالم، وهي الجرائم التي أدانها العالم، حكومات وشعوبًا ومؤسّسات.
على سبيل المثال، في جامعة هارفرد الشهيرة، أصدرت 33 مجموعة طلابية بيانًا أدانت فيه العدوان الهمجي الإسرائيلي ضد المدنيين في غّزة، وهو أمرٌ لم يرق لإيلوز، لأنّ العالم ألقى باللوم على إسرائيل وحدها وحمّلها مسؤولية المجازر البشعة في غزّة، لكنه لم ينتبه أو لم يدن تصرفات "حماس" من وجهة نظرها.
هل يمكن أن نصف إيلوز بالقصور المعرفي والعلمي والتاريخي؟ وإذا كانت تعترض على مصطلح "الإبادة الجماعية" واستعماله من قبل الأنثروبولوجي الفرنسي ديدييه فاسين، فلماذا لا تبحث في الأسباب التي أفضت إلى اندلاع أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023؟ هل هو قصورٌ علميٌ؟ أم هو سقوطٌ أخلاقيٌ يلفه الكذب والغش العلمي؟ ولماذا تسكت إيلوز عن الجرائم والمجازر المرتكبة منذ عشرات السنين بحق فلسطين؟ ضمن أسئلة أخرى.
لا تتوقف إيلوز عند هذا الحد، بل تصف وقوف العالم الإنساني إلى جانب فلسطين تنديدًا بالجرائم المرتكبة ضد الإنسانية ما هو إلّا مشكلة سياسية واجتماعية تستوجب التحليل والوقوف على حقيقة هذا الموقف الفكري الأخلاقي.
الرئيس الناميبي ربط وقوف ألمانيا إلى جانب إسرائيل بإرثها الاستعماري حين ارتكبت إبادة جماعية ضد شعبي هيريرو وناما
في فقرة جاءت بعنوان "وسيلة لا تتسم بالدقة"، تنتقد إيلوز ديدييه فاسين من "الكوليج دو فرانس"، ويرأس كرسي "الأخلاق والقضايا السياسية في المجتمعات المعاصرة"، وهو عضو في أرقى مؤسّسة بحثية في فرنسا، بشهادة إيلوز نفسها، كأنّ فاسين ارتكب جرمًا لا أخلاقيًا، وخان مبادئه العلمية حين وقف إلى جانب أهل غزّة، ولكن كيف وقف إلى جانبهم؟
شبّه فاسين هجوم "حماس" بحدث تاريخي يندر ذكره في الأدبيات السياسية والتاريخية اليوم، وهي المذبحة التي ارتكبتها قبيلة الهيريرو عام 1904 في ناميبيا ضد الاستعمار الألماني الذي اتخذ من ناميبيا مستعمرة له قبل عقدين من الزمن. وهذا ما أشار إليه الرئيس الناميبي هاكه كينكوب حين أكّد انحياز ناميبيا إلى جانب الحق الفلسطيني في المرافعة الدولية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، حيث ربط كينكوب وقوف ألمانيا إلى جانب إسرائيل في هذه المرافعة التاريخية بالإرث الاستعماري، وبيّن عجز ألمانيا عن استخلاص العبر من إرثها الاستعماري في ناميبيا حين ارتكبت إبادة جماعية ضد شعبي هيريرو وناما.
(خاص "عروبة 22")