لقد حمل العرب الإسلام إلى الإمبراطورية الفارسية فدانت لهم، وإلى العالم التركي المتوحش فتهذب بثقافتهم، قبل أن تخبو القدرات العربية، العسكرية والسياسية، بفعل عوامل التعرية التاريخية، ويعود الفرس والترك دولًا قوية على تخومنا. لكن الطرفين، العرب وجوارهم؛ لفرط تأخّرهما السياسي، لم يفهموا حكمة الزمن بتحوّلاته ومقتضياته، فدخلوا في تطاحن حول النفوذ، كثيرًا ما استحال حروبًا بالوكالة، زاد من وطأتها التشابك الديني والجغرافي مع التناقض المذهبي والطائفي.
تتجاهل إيران وتركيا أنّ صورة الإسلام كما يعكسها العرب لا بد وأن تسود في النهاية، وأن غيرهم مهما بلغت قدراته المادية لن يستطع تمثيل الإسلام بديلًا عنهم ولغتهم. وفي المقابل يتناسى العرب جوهر الإسلام الذي أسّس لحضارتهم، ممثلًا في حرية الاعتقاد، والذي ينطوي على إمكانية قبول الاختلاف المذهبي، فإذا بهم يبنون دولهم الوطنية الحديثة على قاعدة الشمولية السياسية المدججة بالأحادية المذهبية، إلى درجة أعجزت أغلبها عن استيعاب رعاياها المختلفين عرقيًا: كالأكراد والأشوريين، والأمازيج والزنوج، أو دينيًا ومذهبيا كالأقباط والمارونيين والزيديين والشيعة.. إلخ.
بات ضروريًا الشروع في هجاء عجزنا وقطع الحبل السُري الذي يغذي انقسامنا
ولذا كرهت تلك الأقليات دولها المركزية التي لم تتمكن من صهرهم في بوتقتها، وأخذت تدور في فلك مراكزها المذهبية والعرقية المجاورة، ومن ثم نشأت ظاهرتا شد الأطراف، والحروب بالوكالة، بين العرب وجوارهم الإقليمي، فالجميع يتناحرون رغم التجانس الديني والتشابك التاريخي، سواء على المحور المذهبي في العراق ولبنان واليمن، أو على المحور العرقي في العراق وسوريا، لتُستنزف طاقاتهم المادية والمعنوية في صراعات صغيرة لا طائل منها.
يحدث ذلك بينما العدو الحقيقي/الصهيوني لمشرقنا الحضاري، العربي الإسلامي، يضحك ملء فيه، مستفيدًا من تشرذمه، محاولًا فرض نفسه وسيطًا بين أطرافه، وقيدًا على استقلاله، مدعومًا بقوة الإمبراطورية الأمريكية الضالة، التي تتماهى معه لدافعين أساسيين:
أولهما ديني، يتمثل في المسيحية الصهيونية، المتجذرة في تفسير أسطوري لسفر يوحنا الإنجيلي، يقول بالعقيدة الألفية، أي عودة المسيح لحكم العالم ألف عام سعيدة، تلي قيام دولة يهودية في أرض الميعاد وبناء الهيكل الثالث في القدس على أنقاض المسجد الأقصى.
ثانيهما عاطفي، فإسرائيل كتجربة احتلال استيطاني استئصالي لم تكتمل بعد، ليست إلا تكرارًا لتجربة الولايات المتحدة الأكثر اكتمالًا في استئصال سكان الأرض الأصليين، ما يعني أنّ إسرائيل ليست إلا صورة لشباب أمريكا الغض، تراها في المرآة فتقع أسيرة لها كما تفتتن الأم بصورة وليدها.
إذ تتبدى حرب الإبادة الإسرائيلية ضد غزّة ذروة للهمجية، ويتبدى التحالف الصهيوني المسيحي كأوضح ما يكون، وأقبح ما يمكن، بات ضروريًا أن نتوقف عن هجاء لا جدوى منه لعدوانية الأعداء، وقبح الآخرين، والشروع في هجاء عجزنا، وقطع الحبل السُري الذي يغذي انقسامنا، والبحث عن طريق لخلاصنا لن نجده إلا في الوجه الحضاري للإسلام كدين رحب يتسع لكل مذاهبنا وطوائفنا وأعراقنا، يقبل بدولنا الوطنية كحاضنة أساسية لاجتماعنا، ويدعو كل دولة إلى احترام جميع مواطنيها.
المنطقة أسيرة للصراعات العرقية والمذهبية فيما أعداؤها يجتمعون عليها بأشكال ودوافع مختلفة
نحتاج إلى من يتكلم باسم أهل الرحم الديني (العرب) مؤكدًا احترامهم لأهل القدرة الإستراتيجية (تركيا وإيران) باعتبارهم الامتداد الطبيعي لنا، كي يعترف أهل القدرة الإستراتجية لأهل الرحم الثقافي بموقعهم في القلب وقدرتهم على الإلهام، لتجرى عملية لملمة جراح المنطقة كلها، وتكتيلها في مجال جيوسياسي واحد تقع خطوط تناقضه الأساسية في خارجه، بديلًا عن الإسلام السياسي الذي يموضع التناقضات داخله، بين أعراقه المختلفة ومذاهبه المتعددة، فيخلق ثغرات ينفذ منها عدوّنا الحضاري المشترك.
يتطلّب ذلك حوارًا مباشرًا بين العرب وإيران وتركيا، يضبط تفاعلات الإقليم على قاعدة احترام الأمن القومي، وسيادة الدولة الوطنية، فمن دون ذلك تظل المنطقة أسيرة للصراعات الصغيرة، العرقية والمذهبية، فيما أعداؤها يجتمعون عليها بأشكال ودوافع مختلفة، فيتكرر الحصار وتتوالى النكبات بل المجازر، التي نأمل أن تكون المجازر الأخيرة في غزّة هي آخرها. قد يرى البعض في ذلك الطرح سذاجة مفرطة، ولكنى أراه ليس فقط ممكنًا، بل الأكثر قدرة على إنقاذ عالمنا العربي، بل مشرقنا الحضاري، من صراعات ملوك الطوائف التي كانت قبل ستة قرون ونيف.
(خاص "عروبة 22")