بصمات

أن تكون شابًّا عربيًّا اليوم

إن الإنسانَ الحقيقي هو الشابُّ الدائم. الشبابُ هو النضارة، حيث البروز المطلق للذات في الواقع، إذ لا يردعها عن الفعل إلا قليل من اعتبارات التلفُّت إلى السابقين أو إلى المخاطر الذاتية في الحدث نفسه. ولما كانت قيدوميَّة الشابِّ هي كينونته الحضورية في الوجود، فإن رؤيته للعام ستمتاز بالحَدَثيَّة. سيكون مباشرًا في ربط القول بالفعل، وفي قراءةِ مفاهيمه من مرآة الماصَدَق الماثلِ أمام العين.

أن تكون شابًّا عربيًّا اليوم

إن الرأيَ لا يمكن أن يكون كهلًا إذا أراد الإنسان العيش الكريم، ذلك أنّ الإرادة الحرّة لا تخرج من صاحِبِها إلا لأنَّ إقامةَ الذهنية الشبابية تتفوق على الركون الهزيل للخواء. الخواء هو اللامبالاة بحركة الوجود، وهو إمكان أن يعيش المرء بلا سؤال! السؤال هو الوَضعُ الموَّار الذي لا يمكن للإنسان فيه أن يستقرَّ على إجابة واحدة. كل ما هو ممكن في لحظة التأمُّل السائل يكون مرفوضًا بسبب جريان الرأي. الرأي يجري لحظة السؤال بين المشهدية والذهنية، يتبرزَخُ أكثرَ مِن مرةٍ في مواضِع ناريَّةٍ من الحَيْرَة والضياع. الضياع يتأتَّى من كثرة الإجابات الموجودة على السطح، ومن صعوبة الغَوْر إلى العمق، والنفاذ إلى حيث يجب، بشيء من الرغبة الجامحة.

لا شيءَ يبعثُ على الجموح سوى الشعور بالشبابيَّة لحظة القول. إن سمة الشبابيَّة هي الحياة الطالعة، البهيَّة في بروزها. حيث تبدو قادرةً على الظهور الكامل أمام النقص الحر. أروع ما في الشباب هو الشعور الدائم بالنقص. هذا الشعور الذي يدفَعُ صاحبَه إلى المبادرة. وكلُّ مبادرةٍ قراءة، وكل قراءة رؤية. والرؤية تجديد وانبعاث. إن الرؤيةَ لا يمكن أن تأتي تذكُّرًا للماضي، ولا تكهُّنًا بالآتي، بل حضورًا مكينًا في الزمن الراهن.

التجديد سمةُ الأقوياء في التكيُّفِ مع الوضعيَّة الراهنة للوجود

إن الراهنيَّة ليست بإمكان مَن لا يعي مثوله الإرادي في الحاضر. الراهنية شعورٌ بالتجسُّدِ في الحدث، حتى يتلبَّس الفعلُ الكينونة المشتملةَ على الكائن والمكان في كيانٍ واحدٍ. في هذه اللحظة بالذات يقول الإنسان شيئًا. لذا تجتمعُ الإرادةُ كلُّها في لغةِ الكائن الحاضر، هذي اللغة لا يمكن أن تنتقل إلى هذه الواقعة من أي زمنٍ آخر، لذا إنّ وجه الشبَه بينها وبين تاريخها لا يتبدَّى إلا بمظهر مغاير. إنّ التغيير الذي حوَّل الدلالةَ على إمكان تعريف الأشياء هو الفعلُ الذي جعلَ الحاجةَ إلى مَن أجرى هذا التغيير حاجةً ضروريةً لإدراكه.

إن إدراك ما تغيَّرَ هو الوعي بضرورة الفهم للغةِ الشابَّة التي أرَّخَت لحظتها الآن، بحيث يصبح كل زمانٍ يبدأُ من حيث بادَرَ هذا الفاعل الذي امتلك الحدث، واعتلا ناصيتَه باللغة، فخاطَب الكونَ بالجديد. الجديدُ واجِبُ الوجود في اللغة كي لا تصبح الحياة تكرارًا فاشلًا لمراحل من الحيوات الأخرى المعيشةِ قبْلًا.

لا يمكن للقبْلي أن يحدِّدَ البعْدِيِّ، بل إن الحضور الراهن هو الذي يحدِّدُ حاجات العيش الزماني في الزمان الحقيقي القائم.

لم تعد الوسيلة الحقيقية هي الاتِّباع الأيديولوجي، ولكن الانفتاح الحقيقي على النضال القيمي في المجتمع

لذا، إنّ التجديد سمةُ الأقوياء في التكيُّفِ مع الوضعيَّة الراهنة للوجود، وذلك لإنتاج أسئلةٍ تليق بتحريك الموجود بما يخدم سيرورةَ الفاعلين في ابتكار نظامٍ للعيش الإبداعي الآمن. إذ لا يمكن أن يعيش المرء بلا أمان، أي بلا هُويَّة حضارية تقوم على الحرية والعدل والأمن، لذا عليه أن يكون جريئًا في التخلي عن أي هُويَّة يشعر بالتصاقِها في الحضور، ليفهم إمكان الحضور نفسه، أي في هذا الـ هُوَ بما هو قادرٌ على إعطاء الوضعِ القابل للهُوِيَّة، فيحرِزُ المرء عندئذٍ فهمًا لوضعيَّتِه المؤوَّلَة أمامه، أي القابلة للفهم، بسبب جدوى حضورها اليوم. هذه الإمكانية تنفي إمكان استعطاء الهوية من الماضي أو من الخواء والعبث، وتصنعُ الإرادة الحرة الواثقة من فعلها، إذ ليس أجدى من الذات الواثقة في مَلْءِ الكون بالسؤال، أي برهن البقاء بالإنسان.

لهذا كله، لا بد للشباب من التحلُّق المنتج في هيئاتٍ تجديدية تتضافَرُ في انجماعها كل آراء الفاعلين، بحيث يناضِلُ كلُّ رأيٍ لإثبات جدواه، فتتكوَّمُ الأسئلةُ في معترك الاجتماع والسياسة والتربية والدول والعلوم وكل مناحي الإبداع البشري. هذي الزُمَرُ الملتفَّة حول هدف التجديد، هي التي ينظر الكل صوبها ليرى امتدادًا لذاته في أسئلة الكون الراهنة، أي ليستمتع بالحياة، الحياة الكريمة الحرة المبدعة.

لم تعد اليوم الوسيلة الحقيقية هي الاتِّباع الأيديولوجي، ولكن الانفتاح الحقيقي على النضال القيمي في المجتمع، بحيث يتكمن الشباب من تحديد أهداف كبرى لبناء الذات في عالمٍ يتَّسع للجميع، وقابلٍ لأن يستبعد كل مَن لا يرى ويُصِر أن يرى، فيبقي الآخرية بمستوى الذاتية في اعتباره لوجوه الحر النافع في هذا الكون.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن