لم تكن أبواب الجحيم مغلقة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. قبل هجمات حماس على إسرائيل وحرب غزة التي أطلقتها حكومة بنيامين نتنياهو المصنفة الأكثر يمينية في تاريخ الدولة العبرية، كانت منطقتنا تعاني من فقدان السلم الأهلي وغياب الأمن بمضامينه الشاملة في العديد من المواقع.
إلى الجنوب من مصر، كانت المواجهات العسكرية في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع والتي نشبت في ١٥ إبريل ٢٠٢٣ تتواصل بدموية ووحشية لتسقط أكثر من ١٠ آلاف ضحية وآلاف المصابين وتشرد ملايين المدنيات والمدنيين وتدفعهم إلى النزوح إلى دول الجوار، وتهدد أقاليم مختلفة في البلد مترامي الأطراف بأخطار المجاعات وانتشار الأوبئة.
اليوم، ومع اقتراب الحرب الأهلية من نهاية عامها الأول، يصل عدد الأشخاص النازحين من المدنيين إلى ٨ ملايين سودانية وسوداني حلت أغلبيتهم بمصر، وتطل المجاعة بوجهها المتوحش على سكان إقليم دارفور وعديد المناطق النائية التي لا يصلها ما يكفي من المساعدات الخارجية، ويواجه أكثر من ٢٥ مليون مواطن ومواطنة (نصف عدد السكان) الجوع كواقع أليم لا فكاك منه، وتحذر منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) من خطر تعرض أكثر من ٧٠٠ ألف طفل لسوء تغذية يفضي إلى الموت المحقق.
تستمر فصول المأساة السودانية، والقوى الفاعلة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا باستثناء مصر وبدرجات أقل السعودية والإمارات لا تنشط لإنهاء الحرب بينما الاتحاد الإفريقي يكتفي بين الحين والآخر بإصدار بيانات عمومية تدعو المتحاربين إلى وقف القتال، والقوى الدولية باستثناء جهود أمريكية وصينية محدودة تراوح بين تجاهل المأساة وبين الإفادة منها ببيع السلاح والخدمات العسكرية.
أما المجتمع الدولي، فشقه الدبلوماسي يصم آذانه عن تحذيرات منظمات أممية وجهات إغاثية عالمية عديدة بشأن خطورة الأوضاع ويمتنع عن الضغط بفاعلية على الجيش وقوات الدعم السريع لوقف إطلاق النار والبحث عن حلول تفاوضية، وشقه الحقوقي المفترض في مكوناته (مؤسسات أممية ومنظمات حقوق إنسان عالمية) أن يوثق الجرائم والانتهاكات التي تشهدها السودان منذ ربيع العام الماضي يصمت فلا تقارير تنشر ولا أرقام وبيانات تخرج إلى العلن إلا فيما ندر، وشقه الإعلامي بجناحيه التقليدي (الصحافة والإعلام المسموع والمرئي) والحديث (وسائل التواصل الاجتماعي) يركز إما على الحرب في غزة وصراع السرديات الدائر بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، أو على الحرب الروسية ــ الأوكرانية وصراع السرديات الدائر أيضا بين الطرفين هناك ويتجاهل في الأغلب الأعم المأساة السودانية على الرغم من فصولها الدموية والوحشية المتعاقبة وعلى الرغم من الكلفة البشرية والمادية المخيفة.
أما في ليبيا، جارتنا الغربية، فلم تكن معاناة أهلها بفعل فقدان السلم الأهلي وتعثر إطلاق العملية السياسية الموحدة الرامية لتقريب مؤسسات الحكم والقوة الجبرية في الشرق والغرب غائبة قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣. بل ضرب شرق ليبيا، تحديدا مدينة درنة، إعصار دانيال في سبتمبر ٢٠٢٣ ليدمر سدي المدينة «بعد سنوات من الحرب والإهمال»، كما أشار محقا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، ويسفر عن كارثة إنسانية كبرى راح ضحيتها آلاف القتلى وآلاف المصابين وآلاف المنشآت العامة والخاصة في واحدة من أقدم مدن الشرق الليبي. وعوق غياب الأمن من جهود الإغاثة المحلية والدولية، فتأخر إطلاقها لتضيع حياة من كان يمكن إنقاذهم وتعثر استمرارها بسبب تكالب من يتصارعون على حكم ليبيا ومواردها منذ ٢٠١١ على الاستحواذ على مخصصات الإغاثة وتوظيفها للحصول على رأسمال سياسي وشعبي، دون اعتبار لمصاب الشعب المنكوب واحتياجاته.
بين ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ واليوم، لم تتحسن أحوال أهل درنة الذين شاهدوا المساعدات الدولية القادمة لمدينتهم تتراجع وفرق الإغاثة الأمريكية والأوروبية تغادرها على وقع نشوب الحرب في غزة وتدهور الأوضاع الأمنية في عموم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وسحب الحكومات والمنظمات غير الحكومية الغربية لموظفيها والمنتسبين إليها من مناطق التوتر الإقليمي ومن بينها جارتنا الغربية.
بين ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ واليوم، وعلى الرغم من تراجع معدلات العنف بين المتصارعين على الحكم، لم تتحسن مجمل أحوال الشعب الليبي الشقيق الذي لم تعد موارده النفطية تضمن له العيش الكريم وينتظر التفاتا عربيا وشرق أوسطيا وإفريقيا ودوليا إليه، لكي تطلق عملية سياسية توافقية تحقق الاستقرار وتفعل جهود التنمية المعطلة منذ سنوات.
ما يشار إليه في الشأن السوداني والشأن الليبي، والبلدان يقعان في جوارنا المصري المباشر، ينطبق أيضا على أحوال سوريا التي تعاني من أزمة اقتصادية حادة، وتشعل إيران وإسرائيل والولايات المتحدة وتركيا حروبا بالوكالة على أراضيها، وتنشط بها مجددا من جهة عصابة داعش الإرهابية ومن جهة أخرى مجموعات كردية مسلحة لها ثأرها مع الحكومات التركية المتعاقبة.
كما أن كارثتي فقدان السلم الأهلي وغياب الأمن بمضامينه الشاملة تحضران أيضا في العراق واليمن، حيث يرتب وكلاء إيران، من ميليشيات الحشد الشعبي هنا وجماعة الحوثي هناك، صراعا داخليا متواترا على الهوية الوطنية واختراقات متراكمة لمؤسسات الدولة الوطنية تدفعها إلى اتباع سياسات وممارسات طائفية وتمكن «السيد في طهران» من استغلال أراضي البلدين لإدارة مواجهاته مع الولايات المتحدة وإسرائيل عن بعد دون اعتبار لا لسيادة وطنية ولا لسلم أهلي، ودون كثير اهتمام باعتبارات الأمن والاستقرار الإقليميين إن في المشرق العربي أو في البحر الأحمر.
أما لبنان، وهو مهدد دوما بانفجارات طائفية وبحروب مفتوحة بين حزب الله وإسرائيل وبتدخلات إيرانية وفرنسية وأمريكية سبق وأن قوضت استقراره وتكثر به مخيمات قدامى اللاجئين واللاجئات ومحدثيهم وتعاني مؤسسات دولته من وهن مزمن، فيواجه ذات الأخطار التي تقض مضاجع الشعبين العراقي واليمني وليس له إزاءها سوى الحفاظ على الحد الأدنى من التعايش بين طوائفه الكثيرة وتمني أن تتوافق الإرادات الإقليمية والدولية على تجنيبه ويلات الحرب والدمار. وفي سوريا والعراق كما في اليمن ولبنان، لم يحدث بين ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ واليوم سوى المزيد من تدهور الأوضاع الأمنية وتفاقم الأزمات الاقتصادية والسياسية.
لم تكن أبواب الجحيم، إذا، مغلقة قبل هجمات حماس وحرب إسرائيل في غزة ولم تكن المآسي الإنسانية والكوارث المجتمعية غائبة عن واقعنا اليومي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ولا ينبغي، من ثم، أن يدفعنا التضامن اللازم مع الشعب الفلسطيني الشقيق الذي يتعرض لما يبدو كونه إبادة جماعية تديرها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل إلى تناسي ما يعانيه الأشقاء في السودان وليبيا وبلدان عربية أخرى، أو إلى تجاهل التهديدات الخطيرة التي ترد على الأمن القومى المصري والعربي بفعل الحرب الأهلية في السودان، وغياب الأمن في ليبيا وسوريا والعراق، وهجمات الحوثيين على الملاحة في البحر الأحمر.
("الشروق") المصرية