من خلاصات تلك النصوص أنّ الدول مطالبة بأن تلتزم بالاحترام والحماية والإنقاذ؛ حيث يُمنع عليها التدخل المباشر، وغير المباشر لإعاقة التمتع بالحق في الماء؛ من ذلك "ينبغي أن تمتنع الدول عن تلويث موارد المياه، أو قطع خدمات المياه والصرف الصحي بطريقة تعسفية أو غير قانونية، أو الحد من توفر مياه الشرب المأمونة للأحياء الفقيرة من أجل تلبية الطلب في المناطق الأكثر شراءً، أو تدبير الخدمات والهياكل الأساسية للمياه كتدبير عقابي خلال النزاع المسلح، أو استنفاد الموارد المائية التي تعتمد عليها الشعوب الأصلية لأغراض الشرب" (حسب وثيقة "الحق في المياه"، الصادرة عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان).
الدول مطالبة أيضًا بالالتزام بالحماية والذي يقتضي منع أي دولة أخرى، من إعاقة الاستفادة بالحق في المياه؛ ويتعيّن على الدول كذلك، اعتماد منظومة تشريعية متكاملة لحماية هذا الحق والتزام المؤسّسات الصناعية وشركات توزيع المياه، وكل من له علاقة بالموضوع، بالتقيّد بمعايير حقوق الإنسان التي لها صلة بالحق في الماء. كما يقضي الالتزام بالإنقاذ، أن تحرص الدول على اعتماد تدابير إدارية وإجراءات قضائية وتخصيص موارد مالية كافية من أجل الاعمال الكامل للحق في المياه. ويُعتبر مبدأ عدم التمييز في التمتع بالحق في الماء، حقًا فوريًا ولا يندرج ضمن الإعمال التدريجي لهذا الحق.
المنطقة العربية من أكثر المناطق في العالم التي يتم فيها اختبار سياسات الاتجار في المياه
لكن من التحديات الكبرى التي تواجهها الدول وخصوصًا منها دول الجنوب، نذكر "خوصصة المياه"، حيث تشير التقارير والاحصائيات إلى جشع الشركات الكبرى والقطاع الخاص المحلي والعمل على استغلال موارد المياه؛ دون مراعاة حقوق المستهلكين واحترام ضوابط الأمن المائي وبالتالي "الاتجار في العطش".
لقد جاء في تقرير لمنتدى الحق في المياه في المنطقة العربية، التنبيه إلى أنّ المنطقة العربية واحدة من أكثر المناطق في العالم التي يتم فيها اختبار سياسات الاتجار في المياه وذلك رغم ما يكتنفها من مشكلات جمّة فيما يتعلق بحقوق المواطنين في الوصول إلى المياه". (أنظر لمزيد من التفصيل كتاب "الاتجار في العطش" لعبد المولى إسماعيل).
وتوقع البنك الدولي، أن ينخفض نصيب الفرد من المياه المتوفرة في المنطقة العربية، إلى النصف انطلاقًا من سنة 2020. ولا تتوفر منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلّا على 2 في المائة من الموارد المائية المتجددة في العالم؛ ويعاني حوالى 90 في المائة من سكان العالم العربي من ندرة المياه. وقالت السفيرة شهيرة وهبي رئيسة قسم استدامة الموارد الطبيعية والشراكات والحد من مخاطر الكوارث بجامعة الدول العربية أنّ "المنطقة العربية من الأكثر ندرة في المياه بين جميع مناطق العالم؛ حيث يقع 19 من بين 22 دولة عربية في نطاق شح المياه. وتحصل 21 من 22 دولة عربية على مواردها المائية الأساسية من مياه عابرة للحدود". (وهذا تصريح موثّق في موقع هيئة الأمم المتحدة).
تواجه فلسطين تحديًّا كبيرًا ومعقّدًا، ليس بسبب التغيّرات المناخية وحسب، وإنّما بالأساس بسبب الاحتلال الإسرائيلي الذي يحرم الفلسطينيين من حقهم في الماء، حيث تقوم إسرائيل باستغلال المياه الفلسطينية وتمارس هيمنتها على المياه الجوفية وتتبنّى سياسة غير عادلة في توزيع كمية المياه المسموح بها. وقد أكد رئيس سلطة المياه في فلسطين، المهندس مازن غنيم، على ضرورة الالتزام بعمل عربي مشترك لدعم الحقوق المائية في المناطق العربية المحتلة، لأنّ ذلك يشكل أكبر تحدي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ويُعتبر مؤتمر الأمم المتحدة للمياه لسنة 2023، الأول من نوعه بعد مؤتمر الأرجنتين 1977، وتكمن أهميته في تبني جدول أعمال تم فيه التعهد بتقديم 300 مليار دولار، لإنجاح هذه الأجندة والتي ليست ملزمة؛ وتتضمن حوالى 700 تعهد.
وبالرغم من أهمية ذلك، في تعزيز الحق في الماء، وتبني سياسات ناجعة ومُنصِفة للأجيال القادمة وبناء مستقبل مشترك؛ فإنّ هناك حاجة للالتزام الأخلاقي والقانوني؛ بمواجهة جشع الشركات الكبرى التي تسعى إلى الاستحواذ على الماء وجعله سلعة مربحة. وهناك إلحاحٌ على تبنّي المنتظم الدولي، لميثاق أخلاقي، لتفادي حروب المياه، وعدم استعمال ذلك في زعزعة استقرار الدول.
ويتعيّن على الدول العربية التفكير بشكل جدي في تبني نهج متكامل للاستثمار في المياه؛ فالعالم العربي يحتاج خلال الفترة ما بين 2015 ــ 2025 إلى 200 مليار دولار لمشاريع البينية التحتية لقطاع المياه؛ في الوقت الذي سيتضاعف الطلب على الماء في سنة 2040.
وتضمنت مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمغرب حول الحق في الماء والتي صدرت في 2023، توصية أكدت فيها على "اعتماد سياسات مائية مستدامة تقوم على أولوية ضمان الحق في الغداء لكل المغاربة وللأجيال القادمة، أي تحقيق الاكتفاء الذاتي، وضع نماذج توزيع الموارد المائية الجوفية لضمان الحق في الغداء للعقود القادمة، بما يسمح بالتقليص التدريجي لهامش التأثر لهامش بتقلبات الظرفية العالمية وتقلبات أسعار المواد الفلاحية في الأسواق الدولية".
وضع خطة عربية موحدة للتفاوض مع المؤسّسات الدولية التي تموّل مشاريع البنى التحتية للمياه
من جهته، يساهم المجلس العربي للمياه في تنمية الوعي بوجود ارتباط قوي بين الموارد المائية والتنمية الاقتصادية وتأثير ذلك على مستقبل ورفاهية الشعوب العربية، ممّا يفسر حرصه على تنظيم المنتدى العربي للمياه من أجل التشاور حول مستقبل الأمن المائي العربي.
هناك حاجة إلى تعميم الوعي بأهمية الأمن المائي وكذلك تبني استراتيجيات متكاملة لمواجهة معضلة الإجهاد المائي، مع وضع خطة عربية موحدة للتفاوض مع المؤسّسات الدولية التي تموّل مشاريع البنى التحتية للمياه، والضغط على القطاع الخاص لتبني استثمار مستدام ومتضامن يحفظ السيادة الغذائية العربية.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")