هل يُشعل حريق الأبدان ضمائر الأمم؟

في صيف عام ١٩٦٣ وقبل أن تبدأ الولايات المتحدة، بشكل رسمي على الأقل، حربها المدمّرة ضد بلد آسيوي صغير يدعى فيتنام، وفي عاصمة القسم الجنوبي من ذلك البلد "سايغون" - هو شي منه في الوقت الحالي- تحلق المارة حول مشهد بدا لهم مذهلًا.

مشهد كان بطله الراهب البوذي النحيل الجسد "تيتش كوانغ دو" الذي تقدّم تظاهرة سلمية قام بها عشرات الرهبان البوذيين للاحتجاج على سياسة نظام رئيس فيتنام الجنوبية آنذاك نغو دون ديم.

ذلك النظام الذي كان يُمثّل أقلية كاثوليكية تمارس الاضطهاد بحق أغلبية بوذية تُمثّل أكثر من ثمانين بالمائة من سكان البلاد، ومع ذلك، كان هذا النظام القمعي ينال دعمًا شبه مطلق من الولايات المتحدة لكونه يتصدى لشمال فيتنام ذي النظام الاشتراكي.

في قلب التظاهرة ودون سابق إنذار، أشعل الراهب النحيل النار في جسده، لتلتهمه النيران التهامًا خلال بضع دقائق لا أكثر، لكي تتصدر صورته المشتعلة التي التقطها مصوّر أمريكي يدعى مالكوم براون صدارة أغلب صحف العالم.

وفي عام ٢٠٢٤ وبعد أكثر من ستين عامًا على المشهد المذكور أعلاه، وفي قلب بلد شنّ حربًا دموية استمرت أكثر من عقد ضد فيتنام، وفي قلب عاصمتها واشنطن كان هناك مشهد مماثل. كان بطله هذه المرة شاب أمريكي يدعى آرون بوشنيل، ظهر في مقطع مصوّر وهو يرتدي في زهو واضح الزيّ العسكري الأمريكي، ذلك الزيّ الذي يحترمه أغلب الأمريكيون إلى درجة القداسة.

لكن بوشنيل، لم يرتدِ زيّه العسكري من أجل استعراض ما أو ليشارك في غزو بلد أجنبي بل ليتظاهر في عاصمة بلاده وتحديدًا أمام السفارة الإسرائيلية هناك ضد المجازر الصهيونية المرتكبة بدعم أمريكي في قطاع غزّة المحاصر.

اختار بوشنيل أن يشعل في جسده النار أمام سفارة الصهاينة احتجاجًا ورفضًا للإبادة الجماعية التي ترتكبها كل من بلاده وربيبتها إسرائيل بحق شعب فلسطين وكانت آخر كلماته قبل أن تلتهم النيران جسده الشاب هو "الحرية لفلسطين.. لن أشارك في الإبادة الجماعية". وما هي إلا بضع ساعات حتى لفظ بوشنيل أنفاسه الأخيرة رغم محاولات إنقاذه.

في كلا المشهدين (الراهب البوذي والعسكري الأميركي) لم يكن الإقدام على حرق الجسد فعل انتحار يائس يهدف إلى الخلاص من حياة بائسة، وإنما كان بمثابة صرخة احتجاج ضد ظلم فادح يُرتكب بحق الشعوب، في محاولة لمخاطبة ما تبقى من ضمير عالمي حيّ.

وفي كلا المشهدين، كان الحريق يكتسب دلالة خاصة بسبب الفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها من أقدموا على هذا الفعل، فالرهبان البوذيون كانوا بمثابة القادة الأخلاقيين لشعب فيتنام الجنوبي، أما في حالة بوشنيل، فهو لم يكن متظاهرًا عاديًا وإنما كان ينتمي إلى فئة تحمل لها غالبية الشعب الأمريكي احترامًا لدرجة الافتتان.

وكما كانت صورة الراهب المحترق سببًا في لفت الأنظار إلى قضية الشعب الفيتنامي وتعاطف عدد غير قليل من الأمريكيين، لا سيما من جيل الشباب حينها، مع تلك القضية، فإنّ ما قام به الجندي الأمريكي الشاب هو خير دليل على عمق الأثر الذي أحدثته معركة "طوفان الأقصى" منذ انطلاقتها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحتى الآن على الوعي الجمعي لشعوب العالم والذي يبدو أنه تجاوز التأثير على المدنيين الأمريكيين ووصل إلى الجيش الامريكي ذاته.

إنّ صورة بوشنيل المحترقة التي وصلت بفضل تكنولوجيا البثّ الحي ومواقع التواصل الاجتماعي إلى العالم أجمع في توقيت حدوثها نفسه سيكون لها الأثر ذاته الذي كان لصورة الراهب البوذي في الستينات على نظرة كثيرين لا سيما في داخل الولايات المتحدة إلى قضية فلسطين وشعبها.

فالصورة هذه المرة أكبر من قدرة كل من الصهاينة وحلفائهم الأمريكيين على التعتيم الإعلامي، وهي أكبر أيضًا من التشويه المتعمّد الذي بدأت تروّج له بعض وسائل الإعلام الأمريكية بمجرد وفاة الجندي الشاب ووصفه بالمريض نفسيًا، وهي تهمة باتت تلازم كل من يختار أن يسير عكس تيار النخبة الحاكمة في واشنطن وخاصة إن كان شخصًا أبيض اللون مثل بوشنيل. وكذلك فإنّ الجسد المحترق ليس لشخص عادي، والصيحة التي أطلقها من وسط النيران سيتردد صداها عمّا قريب في العالم أجمع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن