للصين مصالح نفطية واستراتيجية في الشرق الأوسط تحكم نظرتها، غير أنها تتحاشى أن تجد نفسها متداخلة في أزماته بأكثر مما تقتضيه مصالحها وحساباتها.
في خطوة لافتة امتنعت بعد السابع من أكتوبر عن إمداد الدولة العبرية بمكوّنات تُستخدم في مصانع للتكنولوجيا العسكرية. كان ذلك تغييرًا جزئيًا في سياسة "النأي بالنفس"، التي تتبعها في الأزمات الدولية المماثلة.
تؤيد وتدعم سياسيًا دون تورط أو شبه تورط، ولا تبادر بأكثر من أن تعرض وساطتها.
لماذا لا يعلن التنين الصيني عن نفسه كقوة عظمى مفترضة في الحرب على غزّة؟!
كان ذلك سؤالًا مكتومًا في العالم العربي يعبّر عن حاجة مفتقدة إلى شيء من العدالة وشيء آخر من التوازن في نظام دولي يترنح.
الصين ليست في عجلة للعب أي أدوار عظمى كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها
"لسنا قوة عظمى.. نحن دولة نامية من العالم الثالث، ما زلنا تلاميذ على مقاعد الدرس والتعلّم من تجارب الدول الأخرى".
تلخص تلك العبارة على لسان مقربين من مركز صناعة القرار نظرة الصينيين لموقعهم على خرائط القوة والنفوذ والمكانة في النظام الدولي - كأنها حقيقة نهائية لا تقبل تأويلًا، أو تراجعًا.
كيف؟.. ولماذا؟
"هناك مناطق واسعة تعاني فقرًا مدقعًا ومن أولوياتنا تحسين أحوالها ومستويات معيشتها قبل ممارسة أي أدوار تنتسب لعظمة القوة، ولا تنس أنّ المتوسط السنوي لدخل المواطن لا يتجاوز (8000) دولار، وهو أقل مما يحصل عليه مواطنو بعض الدول النامية".
بيقين الأرقام فإنّ الصين عملاق اقتصادي يكاد يقفز إلى المرتبة الأولى في الاقتصادات العالمية على حساب الولايات المتحدة، التي تتمتع بثقل القوة العظمى الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تتوافر للصين ترسانات سلاح متراكمة وصناعات عسكرية متقدّمة.
رغم تراكم المال والسلاح إلى مستويات قياسية فإنّ الصين ليست في عجلة من أمرها للعب أي أدوار عظمى، كأنها تجلس بصبر على حافة النهر في انتظار جثة عدوها طافية.
سياسة النفس الطويل من مقوّمات الحكمة الصينية، كما صاغها فيلسوفها الأكبر "كونفوشيوس" في العهود الغابرة.
إذا لم تقرأ باستيعاب ذلك الفيلسوف القديم يصعب عليك أن تفهم الشخصية الصينية، أو أن تلمّ بمفاتيحها الرئيسية. الحكمة - في تعاليمه - أن تعرف مواطن ضعفك قبل قوتك.
أكثر ما يثير الالتفات في التجربة الصينية قدر التواضع في النظر إلى حجم الإنجاز وحجم تراكم خبرة بناء الدولة دون صدام مع شرعية الثورة، التي قادها إلى النصر عام 1949 زعيمها "ماو تسي تونج".
بعد رحيل "ماو" عام 1976 دخلت الصين لمدة عامين في صراعات سلطة وفترة حيرة في أي طريق تذهب، حتى أمسك بمقاليدها "دينج هسياو بينج" - نائب رئيس الوزراء التاريخي "شواى لاى" وتلميذه الأقرب. وشرع في وضع اللبنات الأولى لسياسة الانفتاح الاقتصادي، وفق ما أطلق عليه "اقتصاد السوق الاجتماعي".
في أقل من 50 سنة بنيت الصين من جديد على أُسُس حديثة، حركة الاستثمار تمضي بكامل قواعد الإدارة الرأسمالية في إطار مخطط الدولة، التي أتاحت المنتجات العالمية الشهيرة من وجبات الطعام السريعة إلى السيارات والملابس والأجهزة الإلكترونية في سياق صيني محكم، يراكم الخبرة بالحداثة ويتيح لمواطنيه من أبناء الطبقة الوسطى المستوى ذاته الذي يتمتع به نظراؤهم في العواصم الغربية.
بأي نظرة عابرة على الحياة اليومية بالشوارع والمواصلات العامة والمطاعم والأسواق فإنّ بيجين - الاسم الجديد للعاصمة بعد توسّعها وتمددها - أكثر مدن العالم ارتباطًا بالتقنيات التكنولوجية الحديثة.
مبدأ الصين في إدارة سياستها الدولية: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات
يمكن وصف التجربة الصينية بـ"رأسمالية الدولة". ويصعب نسبتها إلى أفكار "ماو" إلا بقدر تراكم التجربة، فقد فتح الباب واسعًا للتغيير ونقل البلد كله من حال إلى آخر، من التخلّف المفرط وحروب الأفيون ومستوطنات الذباب إلى القرن العشرين وحقوق مئات الملايين في العدالة والتنمية والحياة بكرامة.
الانتساب إلى "ماو" مسألة شرعية، غير أنّ الماوية، من حيث هي أفكار وتصورات وسياسات تكاد أن تكون قد طويت.
احترام إرث الماضي وتصحيحه دون صخب مكّن بلدًا يتجاوز عدد سكانه (1.4) مليار نسمة من عبور أي منزلقات تعوق تقدّمه خطوة بعد أخرى على طريق الألف ميل استلهامًا للحكمة الصينية الشهيرة.
المبدأ الصيني الحاكم في إدارة سياستها الدولية يمكن تلخيصه على النحو التالي: أكبر قدر من المصالح وأقل قدر من المنازعات.
وفق ذلك المبدأ أدارت الصين أزمتين دوليتين كبيرتين: الحرب في أوكرانيا والحرب على غزّة.
لا تُخفِ انحيازاتها لكنها لا تتورط فيها.
قضيتها المركزية: ضم تايوان إلى الوطن الأم.
إنها قوة كبرى لا يمكن تجاهلها لكنها ليست حتى الآن قوة عظمى لها كلمتها النافذة في حسابات القوة والنفوذ.
لن يتبنى أحد قضايانا إذا لم نكن نحن أنفسنا في مستوى تحدياتها الوجودية
في محاضرة دعيت لإلقائها (خريف 2017) بجامعة "بكين" العريقة بتاريخها والحديثة بمناهجها عن "الصراع الإقليمي في الشرق الأوسط"، لفت إلى أنّ الصين مدعوة خلال عشرين سنة على أعلى تقدير لإجابة أخرى عن سؤال التحوّل إلى قوة عظمى لها نفوذها في الملفات الدولية.
تراكم المال والسلاح يوفر أساسًا متينًا للقوة العظمى، لكنه لا ينهض وحده بالمهمة ما لم يستند إلى بنية سياسية وإعلامية تلهم أوسع مشاركة وتضخ الدماء في بنية النظام وقدرته على التجدد والتحديث والحفاظ بالوقت نفسه على قوة الدفع.
هذه المعضلة ما زالت ماثلة.
معضلتنا هنا في العالم العربي، أننا لا ندرك أنّ أحدًا لن يتبنى قضايانا ويخوض معاركًا بالنيابة إذا لم نكن نحن أنفسنا في مستوى تحدياتها الوجودية.
(خاص "عروبة 22")