تقدير موقف

"إدارة المجاعة" كأداة للإبادة الاجتماعية والنفسية في غزّة

كان مشهد نازحين فلسطينيين يهرولون نحو المساعدات ويتركون رجلًا أطلق عليه الاحتلال الإسرائيلي النار يسقط بين أقدامهم، بمثابة إنذار لتغيُّرٍ تحاولُ إسرائيل حفره في بنية المجتمع الغزاوي لتدمير التضامن الاجتماعي الذي عُرف به الغزاويون وأثار دومًا انبهار المراقبين والعاملين الأجانب في القطاع المحاصر.

إننا في الأغلب أمام عملية متعمّدة ومنسّقة تنفذها إسرائيل بموافقة أمريكية لإدارة الجوع والمجاعة لتفعل بالمجتمع الغزاوي ما فشلت به الغارات والمذابح، وهو "تنفيذ إبادة جماعية نفسية واجتماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزّة".

قد تكون هذه العملية منبثقة من دراسات علم النفس الاجتماعي، والتي تعتمد على التأثير المدمّر للجوع على نفسية الإنسان وسلوكه وعلى تماسك المجتمعات، علمًا بأنّ تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور في القانون الدولي.

لماذا كانت غزّة دومًا شوكة في حلق الاحتلال؟

رغم معاناة غزّة الكبيرة من الحصار والحروب والاحتلال على مدار العقود الماضية تميّز مجتمعها بسمتين رئيسيتين تمثّلان شوكة في حلق الاحتلال.

أوّلها درجة نادرة من التماسك الاجتماعي في المحن، مضافًا لها صلابة لافتة، حيث تحدّث بعض العاملين في وكالات الإغاثة الأجنبية في المراحل الأولى للحرب الحالية (والحروب السابقة) عن حرص أذهلهم من قبل زملائهم الفلسطينيين على مواصلة العمل من أجل إبقاء مقوّمات الحياة في مجتمعهم قائمة حتى لو كان ذلك على حساب أمنهم الشخصي ومصير عائلاتهم.

إدخال المساعدات بوتيرة ضئيلة عمل مقصود يسعى إلى تدمير الحالة التضامنية وتفكيك تماسك المجتمع

كما كانت مشاهد هرولة السكان المدنيين لانتشال جيرانهم من تحت الركام الذي خلّفته الغارات، رغم أنّ الطائرات الإسرائيلية ما زالت تحلّق بالأجواء، مشهدًا متكررًا معبّرًا عن مقدار هذا التماسك الاجتماعي الهائل.

السمة الثانية، أنّ غزّة كانت متمسّكة بشدة بكونها جزءًا من الكل الفلسطيني، وبالتحديد جزءًا عصيًا وفي الوقت ذاته غير مرغوب من قبل الاحتلال الذي تتركز أطماعه بالأساس على القدس وأراضي الضفة الغربية الخصبة، وهو على استعداد لمنح غزّة المتمرّدة بعض الميزات، مقابل سكوتها عن ممارساته في هذه الملفات، ولكن مجتمع غزّة كان دومًا يلتف حول فكرة المقاومة سواء من "فتح" أو "حماس" أو "الجهاد"، وعلى استعداد دومًا لتحمّل الدمار الذي يلحق به وأن يشتد عليه الحصار جراء دور القطاع كأداة منغصة للاحتلال بهدف فرض معادلة الهدوء في غزّة مقابل خفض الانتهاكات بحق الأسرى والضفة والقدس.

ولكنّ هاتين السمتين، يُجرى محاولة لتدميرهما، بشكل منهجي عبر إدارة عملية التجويع في المرحلة الحالية من الحرب، إضافة لاستمرار المذابح حتى لو بوتيرة أقل.

فإدخال المساعدات بوتيرة ضئيلة عمل مقصود، بهدف أن يطال الجوع سكان القطاع لا سيما الشمال، دون الوصول لمرحلة يفضي فيها هذا الجوع إلى موت الآلاف من السكان حتى لا يحدث رد فعل عالمي، فالهدف أن يظل سكان شمال القطاع على حافة الموت جوعًا، وأن يموت بعضهم وليس أغلبهم. فالجوع يؤدي لتغيّر قسري لسلوك البشر، وبالتالي يسعى هذا النهج إلى أن يتصارع السكان على الموارد المحدودة لتدمير الحالة التضامنية التي تشتهر بها غزّة وتفكيك تماسك المجتمع وترك ندوب نفسية واجتماعية تظل موجودة حتى بعد نهاية المحنة الحالية.

أما في جنوب القطاع، فتجرى عملية التدمير الاجتماعي بالأكثر عبر تأثيرات تكدس النازحين في مخيمات لا يتوفر لها الحد الأدنى من مقوّمات الحياة، ليتزاحموا نساءً ورجالًا وأطفالًا، على خدمات الصرف الصحي والمياه المحدودة في عملية ترمي لنزع الكرامة، حسب مسؤولين دوليين معنيين بهذا الملف، خاصة أنّ هذا يحدث في مجتمع محافظ وفي الوقت نفسه مجتمع على درجة من التمدن ولم يعرف في تاريخه المشهود مثل هذه الحالة.

الهدف تطويع الغزاويين لمرحلة "اليوم التالي"

والمفارقة أنه بالتزامن مع حرب أوكرانيا، أعاد الغرب عبر مراكز أبحاثه وإعلامه استذكار المجاعة المدمّرة التي شهدتها أوكرانيا السوفييتية عامي 1932 و1933 والتي توصف بأنها إبادة جماعية متعمدة من قبل الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين لتدمير القومية الأوكرانية، ولكن الغرب يتعامل بقدر من التجاهل مع عملية مماثلة يتم فيها أمام عينيه تجويع شعب بأكمله عمدًا لإخضاعه ليكون طيعًا أمام سياسات ما بعد الحرب أو "اليوم التالي لحماس" كما تحلو للأدبيات الغربية تسمية هذه المرحلة المنتظرة.

ففي ظل مؤشرات على الفشل في القضاء على الفصائل الفلسطينية، ورفض حكومة نتنياهو في الوقت ذاته عودة السلطة لقطاع غزّة، فإنّ عملية التجويع تهدف لتفكيك علاقة السكان بالفصائل المقاومة، وكذلك قطع روابطهم المتبقية مع السلطة، وجعلهم يتضورون جوعًا فيصبحون كائنات بشرية منهكة تريد تلبية حاجاتها البيولوجية الأساسية وبالتالي يتخلون عن دورهم الطليعي للشعب الفلسطيني.

قبل ذلك تم تدمير مؤسسات المجتمع مع محاولة تفكيك قياداتها وكوادرها المؤهلة سواء بالقتل أو بدفع كثير منهم للنزوح مع ذويهم.

كل ذلك يمهد لإجبار الغزاويين على الخضوع لحكم إسرائيلي مباشر، أو محاولة خلق حكم محلي يتم صنعه من قبل إسرائيل لا يكون مسيّسًا بل تغلب عليه عشائر أو مجموعات نفعية غير مؤدلجة، كما ذكرت صحيفة الشرق الأوسط السعودية.

كما أنّ تركّز عملية التجويع في شمال القطاع، قد يكون أحد دوافعه تفريغه من السكان لضمان تطهيره عرقيًا، سواء بهدف تأمين غلاف غزّة أو احتلاله أو حتى استيطانه.

آثار بعيدة المدى على المنطقة والعالم

لكن تداعيات الإبادة الاجتماعية في غزّة عبر التجويع، قد لا تأتي بالضرورة، كما تشتهي إسرائيل، فالأرجح أن تفشل محاولاتها لإنهاء تشبّث الغزاويين بدورهم في القضية الفلسطينية وفض علاقتهم بالفصائل التي هي جزء من المجتمع الغزاوي، خاصة أنّ المجتمع الفلسطيني أثبت دومًا قدرته على التكيّف مع المحن، رغم أنّ هذه المحنة تظل غير مسبوقة في طولها أو قسوتها.

قد نرى جيلًا يتحوّل من الفصائل الفلسطينية إلى الحركات المتطرّفة المعولمة مثل "القاعدة" و"داعش"

ولكن على جانب آخر، فإنّ عملية التجويع البشعة هذه قد يكون لها آثار نفسية غير متوقعة لا سيما على الشباب، والأطفال، فقد نرى جيلًا يتحوّل من الفصائل الفلسطينية التي تركّز على الصراع مع إسرائيل داخل حدود فلسطين التاريخية إلى الحركات المتطرّفة المعولمة مثل "القاعدة" و"داعش" خاصة لو تم تدمير "حماس" و"الجهاد" تمامًا مع استبعاد أي دور للسلطة الفلسطينية و"فتح"، كما تخطط إسرائيل.

لقد نبت "داعش"، من أحشاء محنة مشابهة، إذ ظهر في أوساط سنّة العراق بسبب مظالم الاحتلال الأمريكي، حيث تشكّل التنظيم ببنيته الحديدية وأساليبه المتوحّشة في السجون بعد تدمير الاحتلال لمؤسسات الدولة العراقية وحل جيشها وتفكيكه لحزب "البعث"، وقمع حركة المقاومة الأولى التي ظهرت عقب غزو 2003 بوحشية، إضافة لتأثيرات الحرب الأهلية الطائفية العنيفة بالبلاد.

المفارقة أنّ فلسطين كانت إحدى المناطق النادرة بالعالم الإسلامي التي لم يخترقها تنظيما "داعش" و"القاعدة" إلا لمامًا، ولكن الإيغال في القمع بينما قد يكسر جزءًا من المجتمع، فإنه قد يحوّل جزءًا آخر لحالة موغلة في التطرّف، وهو ما يعني أنّ إسرائيل لو نجحت في مآربها قد تخلق مشكلة كبيرة للمنطقة والعالم.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن