بصمات

نقدُ الدّولة.. نقد المقدّس السّياسيّ

بـمثـل ما دخـل الكـثيـرُ من ظـواهـر السّياسـة، في بلدان الغـرب الحديث، في جملة المـقـدّسات السّياسيّـة التي لا تَـقْـبَـل الانـتهاك، كذلك هـي أصبـحت - في الوقـتِ عيـنِـه - مـوطـنَ نـقـدٍ حـادّ من الفـكـر الـفـلسفيّ والفـكـر السّياسيّ لم يـوفِّـر منها شيئـًا بما في ذلك "قـدسيّـتها" التي كانت قـد رَسَـخَت في وعي قسـمٍ كـبير من أمم الغـرب وشعـوبه.

نقدُ الدّولة.. نقد المقدّس السّياسيّ

ولقد حصل لنظام الـدّولـة الوطـنيّـة ما حَـصَـل لأجزائـها من التّـقـديس والنّـقـد في الآن عيـنِـه؛ فما اقـتـصر نـقْـدُها على تناول أبـعاضـها (الدّستور، التّـوافـق، العـقـد الاجتـماعيّ، التّـمثـيل، الحـريّـة، المواطـنـة...) بالفحـص النّـقـديّ، وإنّـما صِـيرَ إلى النّـظـر إلى الخـلـل فيـها في كـلّـيتها، تـمـامًا على نحـو ما كـان مَـقامُـها قد ارتـفـع، في الحـقـب اللّيـبرالـيّـة الثّـلاث الأولـى، إلى مرتبـة المـقـدّس السّياسيّ الذي لا يُـنـالُ مـن حُـرْمـه.

كان هـيغـل أوّل من دشّـن نـقـدًا فـلسفـيًّا لنظـام الـدّولـة الوطـنيّـة من مـدخـلٍ فـكـريّ ساجـل فيه فـلسفـةَ العـقـد الاجـتماعيّ ودَحَضَـها مبـيّـنًا أنّ الـدّولـة ليست وقْـفًا على أفـرادها، ولا هـي تـقـوم بمقـتضى إرادتـهم الجـزئـيّـة، ولا الحـريّـةُ واستـتبابُـها مـدخـلٌ إلى قيام الـدّولـة، ناهيك عن أنّ الـدّولـة ليست شـركـةً لكي تـنـشأ بمقـتضى عـقـدٍ يقـع عليه التّـوافُـق... إلخ. والحقّ أنّ نـقـد هيغـل هذا ما كان نـقـدًا للـدّولـة أو طـعـنًا على مشروعـيّـتها، بمـقـدار ما أتى نـقـدًا لهـنـدسةٍ نـظريّـة (فـلسفـيّـة) لها تـصـوَّرتِ الـدّولـةَ كيانًا اصـطناعيًّا اصـطـنعه الأفـراد لأنـفسهم، وعلى نحـوٍ تَـدين فيه هـذه الـدّولـة في قيامـها ووجـودها لإرادتـهم. ومع ذلك أتـى يمـثّـل تصويـبًا فـلسفـيًّا للنّـظر إلى الـدّولـة، وارتفاعًا بها إلى ذلك الكيـان المفارِق أو المتعـالي عن نـزعات المجـتمع وأهـوائه.

نقد الدّولة الوطنيّة جرى حتّى من المواقع الفكريّة اللّيبراليّة

أمّـا النّـقـد العميق لنظـام الـدّولـة هـذه فهـو الذي وجّـهـه كارل ماركـس حين حلّـل علاقـة الـدّولـة بطبـقـةٍ اجـتماعـيّـة مالكـة للرّأسـمال ولوسـائـل الإنـتـاج، وكـشـف عن الخلـل الدّاب فيها، والذي مـأتـاهُ مـن تـقـديسـها الملـكـيّةَ الخاصّـة. وهكذا بـإدخـاله العامـل الاجـتماعيّ - الاقـتصاديّ في تحليل أزمة الـدّولـة، انتهى إلى القـول إنّ نمـوذجـها اللّيـبراليّ المسيطـر يشـهـد على مـأزقٍ حـادّ ليس من مَخـرجٍ منه إلّا بتغـييـر نظـام السّـلطـة بما يضـع القـوى المنـتِـجـة - وليس المالكـة - في مـوقـع السّـيطـرة، وبما يحقّـق التّـوزيع العادل للثّـروة - الذي يقـضي على الـتّـفاوت الطّـبقـيّ - ويرسِّخ بناء النّـظـام الاشـتراكيّ.

على أنّ نـقـد الـدّولـة الوطـنيّـة جـرى حتّى من المواقـع الفـكريّـة اللّيـبراليّـة نفسِـها. المثـالُ الذي يَـدُلُّـنـا على ذلك هـو ما كتبـه عنها كـلٌّ من الفـرنـسيّ أليكـسي دو تـوكـڤـيل والإنـڱـليـزيّ جـان ستـيوارت مِـل بين الثّـلاثيـنـيّـات والخـمسيـنيّـات من القـرن الـ19. انـتـقـد تـوكـڤـيل الثّـورة الفرنسيّـة والنّـظام الذي تولّـد منها، مبـيّـنًا أنّـه يـرث الكـثيـر من مساوئ العهـد القـديم ويعـيد إنتاجها من دون حيازة إمكان تجاوزِها وبناء أسـسٍ جديدة. وفي نقـده يلاحـظ كيف يظـلّ مبـدأ المساواة المبـدأ الأساس الذي كـرّسـتـه الثّـورة ونظـامُها، فيما يغيب تمـامـًا مبـدأ الحـريّـة من الأفـق الذّهـنـيّ لرجـال الثّـورة ومن الواقـع السّياسيّ لنظامـها. ولقد بـدا كـتابُـه هذا (النّـظام القـديـم والثّـورة) أصْـرخَ هجـومٍ نـقـديّ على حـدثٍ عُـدَّ من المـقـدّسات السّياسيّـة هو حـدث الثّـورة الفـرنسيّـة والنّـظام السّياسيّ الذي خرج من رحمـها. وما كـان تـوكـڤـيل معاديًا لليـبراليّـة، شـأن كارل ماركـس، ليـبرِّر لـهُ ذلك توجيـه هـذه الكميّـة الهائلـة من النّـقـد العنيـف للثّـورة الفرنسيّـة بل كان من الألسنـة اللّاهـجـة بها وبمحاسـنها، ولكن لا استـنادًا إلى نموذجـها الفـرنسيّ، بل إلى نمـوذجـها الأمريـكيّ الذي كـال له كـبير مديـحٍ ولَـمّـعه إلى أبـعـد حـدّ ولكـن، أيـضًا، النّـموذجَ الذي أحسن تـقـديمَه في كـتابـه المرجـعيّ عنها الذي صـدر في جـزأيـن تحت عنـوان: الـدّيـمـقراطيّـة في أمـريكـا.

التقى مِل بوصف نظام "طغيان الغالبيّة" مع وصـف توكڤيل لنظام الثّورة الفرنسيّة بنظام "الاستبداد الدّيمقراطيّ"

استـكمـل جان ستيـوارت مِـل ما بـدأهُ تـوكـڤـيل. لكنّ نـقـد هـذا أتى أشـدَّ حـدّةً وعنـفًا لهـذه الـدّولـة الوطـنيّـة الحديثـة من تـوكـڤـيل؛ فهـو ما قـصرَها على مثـالٍ واحـدٍ بعيـنـه - مـثـلما فعـل تـوكـڤـيل - وإنّـما عنى بها النّـموذجَ برمّـتـه. لقـد بـدتْ له الـدّولـةُ الوطـنيّـة غـولًا يفـترس الحريّـةَ ويهـتـضم الحقـوق ويُـزْري بالـفرد ويعـتـدي على فرديّـته؛ فما كان منه سـوى أنِ التـزم جانب الحـريّـة والفـرد، نـاقـدًا الـدّولـة تلك وساخـرًا من لعـبتها التّـمثـيليّـة والدّيـمـقراطيّـة إلى الحـدّ الذي لم يمنـع فيه نفـسَـه من وصـف نظام الشّـرعيّـة السّياسيّـة فيها، القائـم على مبـدأ، حُـكْـم الغالبيّـة (= أي الدّيـمـقراطيّـة التّـمثـيليّـة) بنظـام "طـغيـان الغالبيّـة" ملتـقـيـًا، في ذلك، مع وصـف تـوكـڤـيل لنظـام الثّـورة الفرنسيّـة بنظـام "الاستـبـداد الدّيـمـقراطـيّ". لـقـد اسـتأنـف مِـلْ في كـتابـه في الحـريّـة ما دشّـن القـولَ فيه تـوكـڤـيل في وضـع نظـام الـدّولـة الوطـنيّـة موضـع مساءلـةٍ نـقـديّـة بعد أن شـرع النّـظامُ هذا في الإفصـاح التّـدريـجيّ عن نقـائـضـه ومفـارقـاتـه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن