لا يوجد ما هو أقسى على نفس الإنسان من ضياع حلمه الذاتي، ولا يوجد ما هو أقسى على أمة أو شعب ما من إنكسار حلمهم الجماعي٫ فما بالك إن اجتمع على فرد ما كلا الأمرين معًا؟.
هذه الحالة الانسانية الفريدة رصدها قلم الأديب العربي الراحل بهاء طاهر في أعماله الروائية، إذ قلّما يفصل طاهر في رواياته بين حلم بطله والحلم الوطني الجامع بشكل عام.
ففي روايته الأخيرة «واحة الغروب» يجد القارئ نفسه أمام بطل يعيش لحظة إنكسار أو إجهاض الحلم في فترة فارقة من تاريخ مصر هي سنة الاحتلال الإنجليزي للبلاد عام ١٨٨٢م.
ينضم بطل الرواية محمود عبد الظاهر، رجل الشرطة الشاب، إلى الانتفاضة الوطنية التي عُرفت لاحقًا باسم «الثورة العُرابية» وقادها عدد من ضباط الجيش المصري مطالبين بالحرية والحكم النيابي، ووضع حد لحكم الخديوي الاستبدادي الفردي المطلق من ناحية وللتدخل الأجنبي السافر في شؤون البلاد من ناحية أخرى.
وكما يعيش عبد الظاهر ويتفاعل مع انتصارات تلك الانتفاضة، فإنه يشهد بأمّ عينيه يوميات إجهاضها على يد المتعاونين مع الإنجليز، حيث يجد نفسه في قلب ما عُرف باسم مذبحة الإسكندرية والتي يثبت له أنها أحداث عنف مدبّرة لتبرير احتلال إنجلترا لمصر.
ومع اكتمال احتلال البلاد ودخول الجيش الإنجليزي إلى القاهرة واضطرار قائد الثورة أحمد عُرابي لتسليم سلاحه إلى أحد جنرالات الغزاة، يقع عبد الظاهر فيما وقع فيه كثيرون في تلك المرحلة: يتبرّأ في تحقيق أجري معه عن أحداث الاسكندرية من دوره في تلك الانتفاضة الشعبية، بل ومن الانتفاضة ذاتها.
يحمل عبد الظاهر معه وزر خيانته إلى واحة سيوة، حيث أُعيد تعيينه من قبل سادة البلاد الجدد - إذا صحّ التعبير- ويبدو طيلة وجوده هناك كشخصية «سيزيف» الأسطورية التي تحمل على كاهلها حملًا ثقيلًا تحاول -عبثًا- أن تصعد به جبلًا.
تعود فكرة البطل ذي الحلم المجهض لتطلّ من جديد في عمل أدبي آخر لطاهر هو روايته «الحب في المنفى». في هذه الرواية، فإن القارئ بصدد بطل لم يصرّح الكاتب باسمه قط وإن كان يحمل الكثير من ملامح المؤلف.
فالبطل هنا، تماماً كطاهر، عاش التجربة الناصرية في مصر والعالم العربي (١٩٥٦- ١٩٧٠) وآمن بها وتفاعل معها، وعاش أيضًا - تماماً كعبد الظاهر- إجهاض تلك التجربة على يد القوى الكبرى بدايةً من عدوان عام ١٩٦٧.
يغادر بطل الرواية البلاد في وقت تتحوّل مصر فيه عن سياسات التجربة المشار إليها وتنتهج نهجًا جديدًا مغايرًا تمامًا لها.
ورغم إقامته في بلد أوروبي، إلا أنّ البطل يتابع بعين بصيرة آثار هذا التحوّل: فولده الشاب قد تأثّر أيّما تأثّر بخطاب التشدّد والتزمّت الديني الذي بات يتسيّد تلك المرحلة، والقضية الفلسطينية التي آمن بها طويلًا وهتف لها ذات يوم وهو طالب صغير السن، يشهد الآن محاولات تصفيتها على قدم وساق، وتصل هذه المحاولات إلى ذروتها الدامية في مجازر مخيمات صبرا وشاتيلا في لبنان عام ١٩٨٢ والتي ينقل الكاتب رواية حيّة لها عبر شاهدة عيان عليها.
بل إنّ الربط عند طاهر في هذه الرواية لا يقتصر على عالمنا العربي، بل يشير إلى إجهاض حلم التحرّر والاستقلال لدى دائرة العالم الثالث بشكل عام، حين يربط بين ما حدث في مصر وما حدث في بلد أمريكي جنوبي هو تشيلي، بلد الشاعر الشهير بابلو نيرودا المفضّل لدى بطل الرواية عام ١٩٧٣م، حين تم إسقاط النظام الاشتراكي المنتخب على يد اليمين المدعوم من قبل واشنطن.
في كلا الروايتين، ورغم اختلاف الأزمنة والظروف، نجد أنفسنا بصدد بطل يحمل هزيمة داخلية، ولكن هذا البطل ورغم مرارة الهزيمة يتمسّك بضراوة ببقية باقية من أمل.
ذلك الأمل الذي عبّر عنه الأديب الكبير الراحل في حوار مع كاتب هذه السطور، حين وصف مشهدًا صادفه يوم الخامس والعشرين من يناير عام ٢٠١١م أمام منزله بالقاهرة حين شاهد جموع المتظاهرين تتدفّق عبر الشوارع محاولةً الوصول إلى ميدان التحرير في قلب القاهرة.
وهنا تعرّف على بهاء طاهر شاب من قرّاء أعماله الأدبية، فاقترب منه وقبّل جبينه ولخّص المشهد برمّته بعبارة بليغة: «نحن نكمل اليوم ما بدأه جيلكم».
(خاص "عروبة 22")