ورغم أهمية هذه المعوقات، وغيرها كثير بالتأكيد، فإنّ ما يلفت النظر هو أنّ أصحابها كثيرًا ما حاولوا تضخيمها أحيانًا وتمطيطها أحيانًا أخرى وكأنّهم بذلك يرغبون، بقصد أو عن غير قصد، في إقناع الناس بعدم إمكانية تحقيق هذا الشكل من نظام الحكم الحديث، والحال أنّ تلك المعوقات تظلّ نسبية وغير حتمية بكلّ المقاييس ولا تمثل خصوصية عربية أو استثناءً عربيًا.
والمثال على ذلك، دولة الهند وإندونيسيا وماليزيا والباكستان التي تتميّز بتعدّد الأعراق والديانات والطوائف واللغات، وبالرغم من هذا المعطى، تجاوزت هذه الأنظمة تلك العوائق بتوفر الإرادة السياسية واقتناع النخب بحيوية الخيار الديمقراطي للحفاظ على استمرار الدولة واستيعاب التنوّع وتحويله إلى عنصر بناء وتقدّم.
الدول الغربية تفرض عليها مصالحها الاستراتيجية والسياسية التخطيط والعمل لإفشال نجاح أي تجربة ديمقراطية
ومع الإقرار النسبي بالمعوقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وضعف الإرادة السياسية كعوامل أساسية قد تساهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في تعطيل التجربة الديمقراطية في العالم العربي أو تأجيلها، فإنّ التجربة التاريخية بيّنت أنّ أحد أهم العوامل التي تساهم في كبح سيادة الأنظمة الديمقراطية أو إعاقتها في عالم الجنوب عامّة والعالم العربي خاصة، تتمثّل في موقف الدول الغربية التي تفرض عليها مصالحها الاستراتيجية والسياسية التخطيط والعمل بكل الطرق والوسائل الشرعية وغير الشرعية، العلنية والسرية، لإفشال نجاح أي تجربة ديمقراطية وذلك عكس ما يدّعيه خطابها المعلن.
لقد امتلكت بعض البلدان العربية التي خضعت للاستعمار البريطاني أو الفرنسي (العراق، سوريا، ولبنان..) منذ عشرينيات القرن الماضي وراكمت أشكالًا مختلفة ومتنوعة من الممارسة الديمقراطية برغم محدوديتها وانتصبت في بعضها البرلمانات وقامت الأحزاب والمنظمات والجمعيات والنقابات المهنية وانتسبت إليها الكثير من الفئات الشعبية، بل تحمّست لها ودافعت عنها وعن شعاراتها ومارست بعض السلوكات الديمقراطية المبدئية أو الإجرائية (الانتخابات، التعددية الحزبية والنقابية، التداول على السلطة: رؤساء الوزارات...).
إلّا أنّ الأمر اتخذ منحى معاكسًا خاصّة بعد قيام الدولة الصهيونية واكتشاف النفط. وليس من المستغرب حينئذ أنّ دول المشرق العربي قد شهدت انقلابات عسكرية دموية في الغالب استمدّت شرعيتها من ادّعائها واستعدادها لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر وتحقيق الوحدة والعدل والمساواة والحرية، وقد بيّنت الوقائع والوثائق فيما بعد وجود علاقة ما، بين بعض قادة العمليات الانقلابية تلك وبعض الأجهزة الغربية الفاعلة، حتى تبرز إسرائيل أمام الرأي العام الدولي "واحة للديمقراطية محاطة بدول استبدادية".
رغم أنّ جوهر الصراع العربي الصهيوني كان ولا يزال في عمقه يتمحور حول حقوق الإنسان وخاصة حق الإنسان الفلسطيني في تحرير أرضه وإقامة دولته الوطنية العربية الديمقراطية، فإنّ النضال في سبيل التحرير قد اختُزِل في مقولات وقوالب لا تخدم في العمق جوهر هذا الصراع. وحتى إن استخدمت الأنظمة خطاب الحرية والديمقراطية هذا في مرحلة من المراحل، فلم يكن إلّا وسيلة لتغييب مضمونه الحقيقي وذلك بغرض التمويه والتّحيّل، لذلك تراجع مضمون الخطاب الديمقراطي على أرض الواقع بل انتفى أحيانًا من أدبيات الأحزاب والمنظمات وحلّ محلّه شعار تحرير فلسطين وشعارات أخرى وإن لم تكن اقلّ أهمية عنه.
استعادة الأرض تتطلّب أولًا تحرّر الإنسان العربي من عقده الدونية التي تحكّمت في شخصيّته منذ الاحتلال الأجنبي
وبذلك أصبحت مسألة استمرار الصراع العربي الإسرائيلي تُشكّل عاملًا أساسيًا في عرقلة التطور الديمقراطي في كامل المنطقة العربية ذات العلاقة بالقضية عوض أن تكون رافعة للديمقراطية وحقوق الإنسان.
استعادة الأرض الفلسطينية والعربية عمومًا تتطلّب أولًا تحرّر الإنسان العربي من عقده الدونية التي تحكّمت في نفسيته وسلوكه وشخصيّته منذ الاحتلال الأجنبي ثم كرّستها النخبة العربية وساعدت على استفحالها بعد الاستقلال بأشكال أخرى، ولذلك ينبغي استرجاع الثقة بالنفس ومن ثم التحرّر من طغيان السلطات "الوطنية" المحليّة الجائرة والتخلّص من هيمنة الشعارات الزائفة لبعض المعارضات العربية التي حاولت أدلجة الديمقراطية و"استيراد نسخ منها" عوض التعامل معها كـ"تسوية تاريخية" بهدف استعادة الوئام المدني، وحلّ المشاكل التي تتخبّط فيها مجتمعاتنا والتعامل بالمتاح والممكن للمساهمة في بناء الأُسُس والشروط الضرورية لنجاح التجربة الديمقراطية.
(خاص "عروبة 22")