منذ البدء في تشكيل هياكل الدولة الحديثة في مصر في عهد محمد علي وهو نفسه حاكم أجنبي تمصر كليًا هو وعائلته، نشأت قضية ملكية الأجانب للأرض في مصر. وكانت المصادر الرئيسية لملكية الأجانب للأرض في مصر تتمثل أولًا في الأراضي البور التي منحها محمد علي لبعض الأجانب (الأبعاديات) الذين كانوا في خدمته سواء حافظوا على صفتهم كأجانب أو تمصروا وصاروا مواطنين مصريين. والمصدر الثاني هو بيع الوالي محمد سعيد ومن بعده الخديوي إسماعيل لجزء من أراضي الدولة لمواجهة الأزمة المالية الناجمة عن فشل وفساد وسوء إدارة كل منهما للاقتصاد المصري ولملف إنشاء قناة السويس، ووقوع جزء من تلك البيوع في يد الأجانب.
وبعد الاحتلال الإجرامي البريطاني لمصر عام 1882، تم طرح أراضي الدولة للبيع لمواجهة أزمة الديون. وزادت الملكيات الخاصة المصرية والأجنبية الناتجة عن بيع أراضي الدولة بنحو 375 ألف فدان في الفترة من عام 1901 حتى عام 1908، وذهب جزء منها للأجانب. والمصدر الثالث هو نزع ملكيات الفلاحين المصريين لصالح المرابين الأجانب والبنوك الأجنبية عندما تتدهور محاصيلهم بسبب الجفاف أو الفيضانات المدمرة أو الآفات الزراعية، ويتعثرون بالتالي في سداد ديونهم التي حصلوا عليها بضمان ملكياتهم من الأراضي.
الفرمان العثماني وملكية الأجانب للأرض في مصر
كانت مصر قد دفعت ثمنًا باهظًا لعودة السيطرة العثمانية حتى ولو كانت شكلية بعد اتفاقية لندن 1840، حيث أصبح للأوروبيين والأتراك الحق في تملك الأراضي الزراعية وغير الزراعية في البلدان العربية التي تحتلها تركيا العثمانية وضمنها مصر، بعد صدور الفرمان العثماني الذي يعطيهم هذا الحق في عام 1876 كحلقة في سلسلة الإذعان العثماني لشروط الدول الأوروبية التي أنقذت الدولة العثمانية المتهالكة من الانهيار بعد هزيمتها الساحقة في حربها مع مصر (1839) في عهد محمد علي.
ونتيجة انتشار المرابين الأوروبيين وبصفة خاصة اليهود في البلدان العربية الخاضعة للاحتلال العثماني (التركي)، فإنّ رهن الأراضي الزراعية ثم بيعها للأجانب بعد الفشل في سداد الديون، قد توسّع بشكل غير عادي في العديد من البلدان العربية نتيجة للظروف البالغة الصعوبة التي كان الفلاحون الصغار والمتوسطون يعيشون فيها والتي كانت تضطرهم للاقتراض أو رهن أراضيهم تحت وطأة اضطراب أحوال الزراعة بشكل تابع للطقس أو لمستوى الفيضان أو الجفاف، وأيضًا نتيجة الضرائب المفروضة عليهم، أو نتيجة اضطراب أسعار الحاصلات الزراعية سواء تلك التي يتم تسويقها محليًا أو تلك التي يتم تصديرها. ونتيجة أيضًا للإنفاق الترفي السفيه لجانب من طبقة كبار الملّاك الزراعيين والذين كان البعض منهم يستسهل بيع الأرض لتمويل ذلك الاستهلاك.
محاولات صهيونية مبكرة ومنع حازم من الدولة
حاول اليهود الصهاينة شراء قسم من الأراضي المصرية على حدود فلسطين في رفح والعريش بإغراءات مالية كبيرة للبدو الذين يسيطرون على تلك الأراضي وبوسائل احتيالية من خلال شراء بعض الأجانب لتلك الأراضي ثم بيعها لبنك "الأنجلو فلسطين" الذي أسّسه اليهود الصهاينة في القدس لهذ الغرض.
القانون 11/ 1945 حظر ملكية الأجانب للأراضي التي تديرها مصلحة الحدود وفي مقدمتها الأراضي المتاخمة لفلسطين
وكانت البداية ببيع نحو 2380 فدان في تلك المنطقة، لكن الدولة المصرية التي أدركت خطورة ذلك الأمر على السيادة الوطنية، لم تكتفِ بمنع ذلك البيع، بل وأصدرت القانون رقم 11 لعام 1945 الذي حظر ملكية الأجانب نهائيًا للأراضي التي تديرها مصلحة الحدود، وضمنها أو في مقدمتها الأراضي المصرية في سيناء والمتاخمة لفلسطين التي كان اليهود الصهاينة يتقدمون في اغتصابها بتواطؤ وتآمر بريطاني.
تضخم ممتلكات الأجانب من الأراضي والإنذار الفلسطيني للدولة المصرية
تضخّمت ممتلكات الأجانب من الأراضي الزراعية وغير الزراعية في مصر من المصادر المتعددة التي أشرنا إليها آنفًا، وبلغت تلك الملكيات العائدة لـ8242 فردًا من الأجانب نحو 713,1 ألف فدان من الأراضي الزراعية تعادل نحو 13% من إجمالي الأراضي الزراعية في مصر في عام 1917. كما كان هناك في مصر في عام 1930 نحو 3,4 مليون فدان مرهونة للبنوك العقارية والزراعية وبنوك الأراضي. وكان جانب من تلك الأراضي الخاضعة للرهن، مرهونًا للأجانب. ولولا أنّ قانون الخمسة أفدنة الذي صدر في مصر عام 1913 كان يحظر الحجز على الملكيات الزراعية التي تقل عن 5 أفدنة، وعلى أراضي الوقف أيضًا، لكان جانب أكبر من أرض مصر قد خضع للحجز والبيع وذهب قسم كبير منه للأجانب.
ولإدراك وطأة هذا الأمر على الاستقلال الاقتصادي المصري يكفي أن نعلم أنّ كل ملكيات اليهود الصهاينة في فلسطين حتى حرب الاغتصاب عام 1948 لم تكن تزيد على 1,6 مليون دونم أي نحو 381 ألف فدان، وهي تعادل نحو 11,4% من إجمالي الأراضي الزراعية الفلسطينية، أي أقل كثيرًا من النسبة التي كان الأجانب قد اشتروها من الأراضي الزراعية المصرية. وكان اليهود الصهاينة، قد اشتروا غالبية الأراضي الزراعية التي كانت بحوزتهم في فلسطين قبل حرب الاغتصاب، أو بالتحديد 56% منها من عائلة سرسق اللبنانية وحدها، فضلًا عما تلقوه كمنح أو بأسعار رمزية من سلطة الانتداب البريطانية وكان نحو ربع الأراضي التي بحوزتهم قبل حرب الاغتصاب. أي أن أكثر من 80% من الأراضي التي كانت بحوزتهم جاءت من عائلة سرسق وسلطات الانتداب الإجرامي البريطاني وحدهما.
الكتلة الأكبر من الأراضي الزراعية الفلسطينية حصل عليها الكيان الصهيوني بالاغتصاب المباشر إبان حرب 1948
وإضافة لكل ذلك حصل الصهاينة على مساحات أخرى اشتروها من ملّاك عرب وإيرانيين وفلسطينيين غائبين سواء بسبب الاضطرابات والمجازر التي دفعت غير الفلسطينيين للتخلّص من ملكياتهم لمن يدفع أعلى سعر وهم الصهاينة بالطبع، أو بسبب الحجز الإداري والبيع الاضطراري نتيجة العجز عن سداد الديون للبنوك والمرابين بسبب سوء أحوال الطقس وما يؤدي إليه من تدهور المحاصيل.
أما الكتلة الأكبر من الأراضي الزراعية الفلسطينية في فلسطين المغتصبة عام 1948، وهي نحو 6,6 مليون دونم من الأراضي الزراعية الفلسطينية، فقد حصل عليها الكيان الصهيوني المجرم بالاغتصاب المباشر إبان حرب عام 1948، بعد طرد أصحابها الفلسطينيين أو نصب المجازر لهم، فضلًا عن الأراضي العامة البور والصحراوية التي تم اغتصابها جبرًا وعنوةً في تلك الحرب. ورغم ذلك لم يخلُ الأمر من بعض الأنطاع الذين يروجون لأكذوبة بيع الفلسطينيين لأرضهم!
تراجع في عهد السادات وحتى الآن
في عام 1948 تقدّم النائب البرلماني والمؤرخ الوطني عبد الرحمن الرافعي بمشروع قانون يحظر ملكية الأجانب للأراضي الزراعية المصرية. وفي 12 فبراير عام 1951 أقرّ البرلمان المصري بالإجماع ذلك القانون. ونصّ القانون في مادته الأولى على أنه "يحظر على غير المصريين سواء كانوا أشخاصًا طبيعيين أم اعتباريين اكتساب ملكية الأراضي الزراعية والأراضي القابلة للزراعة والأراضي الصحراوية بالمملكة المصرية. ويشمل هذا الحظر الملكية التامة، كما يشمل ملكية الرقبة أو حق الانتفاع". لكن ذلك القانون سمح باستمرار ملكية الأجانب للأرض المصرية إذا كانت الملكية مكتسبة بالإرث أو بالوقف الذي انتهت مدته أو بالشراء أو الوصية من أجنبي.
وهكذا فإنّ تلك الدائرة الجهنمية من سيطرة الأجانب على الأراضي المصرية قد تم تحجيمها وحصرها في أضيق الحدود في أواخر العهد الملكي. لكن الحسم الكامل لسيادة مصر على كل أراضيها ومنع ملكية الأجانب لها جاء بعد استقلال مصر الحقيقي عام 1952 والذي اكتمل بعقد اتفاقية جلاء القوات الاستعمارية البريطانية عن مصر عام 1954.
وفي عام 1963 في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، صدر القانون رقم 15 لعام 1963 الذي قضى بحظر تملّك الأجانب للأراضي الزراعية وما في حكمها من الأراضي البور والصحراوية وأيلولة ما يملكونه من هذه الأراضي إلى الدولة المصرية.
بدأ الانقلاب على جهود التمصير الكامل لملكية الأرض في مصر من عهد السادات حتى الآن
وانقلبت الآية في عهد الرئيس السادات حيث سمح القانون 43 لعام 1974 للأجانب باستئجار الأرض لمدة 50 عامًا قابلة للتجديد لمدة مناظرة، قبل أن يسمح نظام مبارك بملكية غير المصريين للأراضي في مناطق الاستصلاح والاستزراع على طريق القاهرة-الإسكندرية الصحراوي وتوشكى وغيرها من المناطق، ثم تبعه النظام الحاكم حاليًا بإصدار وثيقة "سياسة ملكية الدولة" التي تطرح كل شيء للبيع باستثناءات محددة في الوثيقة، وذلك لمواجهة الأزمة المالية والمديونية الخارجية والمحلية الهائلة التي تسببت فيها الإدارة الحكومية البائسة للاقتصاد.
وتم عقد صفقة بيع منطقة "رأس الحكمة" للإمارات بعقد مشروط بحصول مصر على حصة من أرباح الاستثمار العقاري والسياحي والاستثماري لتلك المنطقة. والأسوأ أنّ البيع تم لدولة الإمارات التي يمكنها أن تبيع العقارات أو المنشآت السياحية والاستثمارية في رأس الحكمة للصهاينة، ولا تلومن الدولة المصرية إلا نفسها إذا حدث ذلك! وصحيح أنّ كل ذلك يمكن أن يتغيّر لدى أي تغيير جوهري في السياسات الاقتصادية في مصر سواء لتغيير النظام الحاكم لتوجهاته، أو لحدوث تغيير فيه هو نفسه، إلا أنّ الواقع الراهن مناقض لمساعي وجهود التمصير الكامل لملكية الأرض في مصر التي بدأت في العهد الملكي واستكملت في العهد الناصري قبل أن يبدأ الانقلاب عليها بداية من عهد السادات وحتى الآن!.
(خاص "عروبة 22")