لقد نشأت أجيال عربية متعاقبة على متابعة أحوال عائلة "السيد أحمد عبد الجواد"، وقصص عائلة "أبو عصام"، وحكايات "حسن أرابيسك"، مرورًا بالاستمتاع بمناوشات "سليم باشا البدري" ضد غريمه الأزلي "العمدة سليمان غانم"، أو ملاحقة "زهرة" في مغامراتها الغرامية الخماسية.
كانت حكايات هذه الشخوص الدرامية جزءًا من حكاية العائلة العربية الكبيرة، إلّا أنّ هذه الذكريات العزيزة على قلوبنا جميعًا، لا تلبث أن تنقلب إلى ما يُشبه الكوابيس عندما نضع حبكات مسلسلاتنا المفضلة تحت مجهر المساءلة الأخلاقية. فكيف أساءت الدراما إلى صورة المرأة العربية؟ ولماذا تم تقديم النساء في قوالب رجعية طيلة السبعة عقود الماضية؟
الدراما العربية وتكريس النظام الأبوي المطلق
من الملاحظ بدايةً أنّ أغلب الأعمال التلفزيونية قد حرصت على الترويج للفكر الذكوري المحدود، من خلال تقييد الأدوار النسائية وتعليبها في قوالب ميزوجينية تخدم السردية الأبوية بشكل فج، حيث عانت صورة المرأة العربية من سنوات عجاف من التشيؤ والتحقير المستمر.
نزعم أنّه وقع نوعٌ من الاغتيال المعنوي لأجيال من النساء عبر اختزال كينونتهن الدرامية - التي تعكس بشكل أو بآخر واقعًا معاشًا - في أنماط فنية مسيئة لم تقدّم حلًا لمعضلة التمييز أو ترفع شعارًا لمناهضة الظلم، وإنّما اكتفت بكونها غرفة الصدى التي تتردّد بين جدرانها أصوات من الماضي.
يجوز لنا القول أيضًا إنّ العديد من الأعمال التلفزية، إن لم تكن معظمها، كانت أشبه بفقرات "بروباغندا" تطبّل للنظام الأبوي الأحادي المطلق. فكيف خسر السيناريست العربي رهان الإنصاف؟.
الأنثى العربية في المخيال الدرامي: بين تمرّد ليليث وخضوع أمينة
من الملاحظ أنّ المعالجة الفنية للقضايا الاجتماعية قد كرّست الأنماط التقليدانية والمعتقدات المتجاوزة فيما يتعلق بالحالة الانسانية للنساء العربيات، حيث تمّ تحديد ملامح مُعيّنة للشخصية الأنثوية، هذه الأخيرة التي ظلّت لعقود طويلة تسبح في فلك النمطية والرجعية والقوالب الجاهزة، إذ لم تخرج الأدوار النسائية عن الثلاثي الدرامي المقدّس.
المرأة إمّا زوجة خاضعة تمارس ضدّها جميع أنواع القهر الاجتماعي والعنف الجسدي والنفسي؛ أو أنثى لعوب تتمحور حياتها حول إغواء الرجال؛ أو امرأة فشلت في الحب والزواج والإنجاب، لأنّها تمسكت بحقها في التعليم والعمل.
لقد كرّست هذه الصورة الكاريكاتورية للمرأة العربية في العديد من الأعمال الفنية، مجموعة من المعتقدات المؤذية، بل ساهمت في اجترار قيم مجتمعية متجاوزة. وكمثال على ذلك، نجد شخصيات درامية عديدة تروّج لدونية المرأة واستعبادها، كشخصية أمينة في مسلسل "بين القصرين"، أو شخصية إنعام في مسلسل "الليل وآخره"، والتي قدّمت دور الزوجة التي تختار الاستمرار مع زوج خائن خوفًا من وصمات العار الاجتماعي التي تلاحق النساء المطلّقات.
نجد أيضًا دور زهرة في "ليالي الحلمية"، الصحفية الشابة التي أوحت شخصيتها أنّ المرأة ومهما بلغت من مراكز علمية أو وظيفية مرموقة، سوف تظلّ حبيسةً لخطوط حمراء تمليها عليها القبيلة والعرف.
تصادفنا كذلك شخصية "ذات" في مسلسل "بنت اسمها ذات"، وهي فتاة جسّدت معاناة أجيال من النساء اللواتي أُجبِرن على مغادرة مقاعد الدراسة، والالتحاق بمؤسّسة الزواج. "ذات" مثالٌ للمرأة العربية التي تمارس نوعًا من السادية الذاتية في إخلاصها وتعلقها بزوج نرجسي سيء الطباع. لقد بقي السيناريست العربي عاجزًا عن كسر دائرة الخضوع والإغواء والفشل.
أتحفتنا الفنانة غادة عبد الرازق، مثلًا، طيلة مشوارها الفني، بأدوار تقدّم صورة الأنثى القوية ذات الشخصية الصلبة في قالب هزلي أقرب للفانتازيا منه إلى الواقع. فالمرأة هنا إمّا ضحية أو جلاد ولا مساحة وسطى بين ذلك.
بعض الأعمال التلفزية العربية ستظل ذكرى مسيئة لكل قِيَم الحداثة والتحرّر والسعي الحثيث نحو تحطيم الأصنام الفكرية، ولعلّ أبرز هذه الأعمال، مسلسل "عائلة الحاج متولي"، أو العمل الذي لم يتوانَ صنّاعه عن إهانة النساء وتجريدهن من إنسانيّتهن بشكل مخجل.
الدراما المعاصرة وتحديات إعادة صياغة صورة المرأة العربية
في الوقت الذي يتطلّع فيه المشاهد العربي إلى دراما رمضانية تساعده في مواجهة الأحكام المجتمعية الجاهزة، والتحرّر من الأنماط الفكرية الجامدة، نجد أنّ معظم الأعمال الفنية المعاصرة تلتف حبكاتها حول مواضيع تجارية مستهلكة، كالخيانة وقِصَص الحب الرخيصة وقضايا النفقة والطلاق، أو ذلك الصراع العبثي بين الحماة والكنة، وغيرها من المواضيع السطحية التي تكرّس لكون النساء هم مجموعة من الكائنات العاطفية الخاضعة للسلطة الأبوية.
تقف المرأة العربية اليوم أمام تركة ثقيلة من التابوهات، حيث تواجه تحديات كبرى أبرزها الحصول على إنسانيتها كاملة في عالم يسعى لتشييء النساء والاستهانة بهن.
المعركة الحقيقية التي تواجه الدراما العربية المهتمة بقضايا المرأة، تكمن في التخلّص التام من الإرث الذكوري المتجاوز، والتركيز على تقديم صورة تليق بنساء اليوم. فهل تنجح دراما رمضان 2024 في ذلك؟.
(خاص "عروبة 22")