تستعرض هذه المقالة وقفات أولية مع أجوبة لا مفر منها بخصوص عدّة أسئلة مسكوت عنها في هذا الملف، ونتوقف عند سؤالين منها: كيف تعامل المفكرون العرب إجمالًا مع الموضوع؟ وما هي طبيعة القضايا التي يمكن للمفكرين العرب الاشتغال عليها، في سياق طرق باب هذا الموضوع؟
في معرض الإجابة على السؤال الأول، نزعم أنّه يصعب حصر مجمل اتجاهات هذا التفاعل، ولكن يمكن حصر أهمها في ثلاثة اتجاهات:
- حالات نادرة جدًا حققت سبقًا بحثيًا في الاشتغال على الموضوع قبل الجميع، بل كانت استشرافية في ذلك، وبحكم تواضع أو ندرة ثقافة الاعتراف، نعين صمتًا عن أي تنويه أو إشادة بما قامت به في هذا السياق، والحديث بالتحديد عن المفكر المغربي حسان الباهي الذي سبق جميع الأقلام البحثية العربية وألّف كتابًا تحت عنوان "الذكاء الصناعي وتحديات مجتمع المعرفة"، مع عنوان فرعي جاءت صيغته كالتالي: "حِنكة الآلة أمام حِكمة العقل". من يصدّق أنّ هذا الكتاب صدر في سنة 2012، وليس في العام الماضي مثلًا؟ (من باب التذكير، صدرت طبعة ثانية للعمل نفسه عن دار "أفريقيا الشرق"، مؤرّخة في 2020).
الاتجاه الغالب عنوانه الصمت خشية الخوض في موضوع لا زال مفتوحًا على المجهول
- هناك اتجاه ثانٍ، نعاينه خلال العقد الماضي على الخصوص، عنوانه ترجمة بعض الكتب حول الموضوع، ويهمّ الأمر مجموعة من الأعمال صدرت في مجالات غربية، أوروبية وأمريكية على الخصوص، ويمكن لأيّ زائر لأغلب معارض الكتب في المنطقة العربية، أن يتأكد من هذا المعطى، وهذا اتجاه يستحق التنويه، لأنّه أمام حالة التواضع أو التردد بخصوص الاشتغال النظري على الموضوع، فعلى الأقل، نترجم ما يمكن أن يفيد القارئ المحلي والإقليمي، ولم لا، تقديم خدمة نظرية أولية لدوائر صناعة القرار.
- نأتي للاتجاه الغالب، وعنوانه الغياب أو الصمت في الاشتغال على الموضوع، وهذا معطى يهمّ أغلب الأقلام الفكرية في المنطقة العربية، وحتى في هذا الخيار، نعاين عدّة أسباب تقف وراءه، من قبيل الخشية من الخوض في موضوع لا زال مفتوحًا على المجهول؛ احترام التخصّصات العلمية الدقيقة التي تميّز عوالم الذكاء الاصطناعي والرهبة من التطفل عليها، أو ربّما بسبب التقزيم من تأثير وتبعات هذه الثورة والتعامل معها بنوع من الازدراء.
في معرض الإجابة على السؤال الثاني، يهمنا بالتحديد تفاعل أقلام الاتجاه الثالث، أي رموز الفكر العربي المعاصر، لأنّ الساحة لا تقبل الفراغ، والرأي العام، من الباحثين والإعلاميين والمتتبعين، وكذلك صنّاع القرار، في حاجة بشكل أو بآخر إلى مساعدة نظرية للتفاعل مع عدّة أسئلة تهم تطبيقات وتطورات هذه الثورة التي نعاين أخبارها بوتيرة تكاد تكون يومية في المجالات الغربية على الخصوص.
نورد مثالًا واحدًا فقط، لكي نذكّر بأهمية وضرورة انخراط أهل الفكر العربي المعاصر، ويتعلق الأمر بسؤال المرجعية الإيديولوجية لمنظّري الذكاء الاصطناعي أو المشتغلين عليه، وهو سؤال نذهب إلى أنّه لا زال نوعًا مّا في مقام "التابو"، أي لا زال مسكوتًا عنه.
من بين التيارات التي تشتغل على الموضوع، نجد التيار الإلحادي، لعلّ أشهر هؤلاء في السياق الأوروبي، الباحث الفرنسي لوران ألكسندر، مؤلف كتاب "حرب الذكاءات: الذكاء الاصطناعي في مواجهة الذكاء الإنساني"، وليس صدفة أن يكون الباحث نفسه متخصّصًا أيضًا في موضوع "ما بعد الإنسان".
تفاعل الفكر العربي المعاصر ضروري مع منعطف الذكاء الاصطناعي
مقابل هذا التيار، نعاين وجود تيار لا يعلن بشكل صريح عن أهمية استحضار سؤال المرجعية، لكن يُحسبُ التنبيه إليه، عبر التلميح مثلًا، والنموذج هنا من السياق الأوروبي أيضًا، مع حالة الباحث إدريس أبركان، والذي في معرض اشتغاله على الموضوع، كما نقرأ في كتابه "انتصار الذكاء"، يُبشّر فيه بانتصار الذكاء الإنساني على نظيره الاصطناعي، إلى درجة أنّه يدعو إلى استحضار هاجس الحكمة في معرض التفاعل مع هذه الثورة العلمية الجديدة، بما يُفسّر إحالته في الكتاب على عدّة أعلام من العالم بأسره، وبالنسبة لمحور طنجة جاكرتا، غالبًا ما يحيل على أسماء صوفية.
هذا نموذج بسيط جدًا من المفاتيح النظرية التي يمكن أن يقدّمها الفكر العربي المعاصر في معرض تفاعله الضروري مع منعطف الذكاء الاصطناعي.
الأمر ليس بالهزل، ولا بالأحرى مسألة ترف فكري.
(خاص "عروبة 22")