أعقب مأزق مفاوضات القاهرة وجمودها، والبعض يقول فشلها، جولة لمدير المخابرات الأمريكية وليم بيرنز على تل أبيب والقاهرة وقطر، في محاولة شبه أخيرة لردم الفجوة. لكن جولة بيرنز لم تسفر عن أي اختراق يوصلها لهدنة الستة أسابيع التي غلّفها الرئيس الأمريكي جو بايدن بمواقف "إنسانية" مستجدة في خطابه السنوي عن "حالة الاتحاد"، وضمّنها خطًا أحمر حول اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة رفح. لكنّ بايدن سرعان ما عمل على سحب خطه الأحمر، قبل أن يصله ردّ نتنياهو "سندخل إلى رفح والخط الأحمر بالنسبة لنا هو عدم تكرار هجوم 7 أكتوبر".
وبدا واضحًا، أنّ دوافع انتخابية تحكم تناقضات بايدن تجاه العدوان على غزّة والقضية الفلسطينية، فمن جهة يُتخم إسرائيل بشتى أنواع الذخائر والأسلحة بعقود لا تحتاج موافقة الكونغرس، ولأجل إظهار نوع من التوازن يلقي ببعض فتات المساعدات من الجو للفلسطينيين المجوّعين بالفيتو الأمريكي، ولأنه وجد المساعدات لا تعود بالمردود التصويتي الانتخابي، خصوصًا من اليسار في حزبه الديمقراطي، طوّر بايدن فكرته عبر إنشاء رصيف مرفئي على شاطئ غزّة لزوم تدفّق المساعدات، فيما آلاف الشاحنات أمام معبر رفح تنتظر سماح إسرائيل بدخولها الممنوع.
هدف الرصيف البحري هو دفع الفلسطينيين المجوّعين لركوب سفن النجاة من الموت إلى المهاجر والمنافي
وفيما بدت فكرة "الرصيف المرفئي" متناسلة من "الممرّ الهندي الخليجي الإسرائيلي الأوروبي"، سارع نتنياهو إلى نفي أصلها وفصلها عن بايدن مدعيًا أبوّته لها، ما أثار ما هو أكثر من الريبة والتوجّس حيال مغزى المكيدة البحرية التي تقوم على توفير بعض الغذاء والدواء للنازحين تزامنًا مع استمرار المجزرة التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين والتي ستتوّج باقتحام مدينة رفح كي تضمن السيطرة على كامل قطاع غزّة، وقد كان نتنياهو شديد الوضوح بقوله "إنّ رفض دخول الجيش إلى رفح يعني هزيمة إسرائيل".
إذن يهدف ممرّ "الرصيف المرفئي" إلى تأمين تدفق المساعدات التي ستخضع انطلاقًا من قبرص للتفتيش الأمني من قبل إسرائيل، بحسب وزير الحرب يوآاف غالانت من جهة، وإلى إطلاق يدّ جيش الاحتلال في استمرار الحرب على رفح من جهة ثانية. ويرفع من جهة ثالثة، الحرج الشديد عن مصر التي تقف عاجزة أمام أرتال شاحنات الإغاثة الممتدّة من مطار العريش إلى معبر رفح تنتظر موافقة نتنياهو الذي شعر في لحظة تباين متوترة مع بايدن بالفرج من فكرة الرصيف البحري التي هي للمناسبة وفق صحيفة "يديعوت أحرونوت" فكرة قديمة لدى اسرائيل التي تعمل على شراء أو استئجار أحد موانئ قبرص ليكون مقرًّا لتجميع المساعدات وفحصها أمنيًا قبل توجهها إلى ميناء بايدن البحري في غزّة من جهة، والأهم، بهدف الالتفاف على الحصار الحوثي المفروض على موانئ إسرائيل من جهة ثانية.
"رصيف بايدن" البحري الذي يعمل بالاتجاهين "ذهابًا - إيابًا"، في ظاهره تقديم المساعدات الانسانية، فيما بواطنه المتناسلة من "خريطة نتنياهو" الشهيرة في مجلس الأمن تقول بأنّ هدف الرصيف البحري هو دفع الفلسطينيين المجوّعين والمنهكي القوى لركوب سفن النجاة من الموت إلى المهاجر والمنافي باتجاه عواصم أفريقية وغربية. وهنا، تكتمل حلقة "رفع الحرج" عن مصر التي منعت حتى الآن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فيما لا حرج عليها، إذا ما تمّ تهجيرهم عبر الرصيف البحري إلى راوندا وتشاد والنيجر وكندا كما تحدثت تقارير إعلامية.
تهجير الفلسطينيين من غزّة هدف إسرائيلي مركزي، قبل طوفان الأقصى وليس بسببه، أو بعده. فالتهجير من غزّة الذي سيليه التهجير من الضفة الغربية إلى الأردن، ومن أراضي الـ48 باتجاه لبنان، هو ما يضع خريطة نتنياهو موضع التنفيذ الفعلي، ويجعل تضاريسها خالية من كل ما يمتّ لفلسطين بصلة، وذلك في سياق قيام إسرائيل بما يتوجب عليها لضمان أمن وسلامة "الممرّ الهندي الخليجي الإسرائيلي الأوروبي" وإزالة المعوّقات من طريقه، لمواجهة "مشروع الحزام والطريق الصيني".
الكيان الإسرائيلي أمام تهديد حقيقي "ينبغي إزالته" عند جبهة لبنان الجنوبية ضمانًا لأمن اسرائيل وعودة مستوطنيها
وقد كشفت الحرب على غزّة أنّ "حزب الله" اللبناني، وحركة "أنصار الله" الحوثيين في اليمن، و"المقاومة الاسلامية في العراق"، أي أضلاع "محور المقاومة" الذي تقوده إيران بانخراطهم الإسنادي للمقاومة الفلسطينية هم من معوّقات المشروع التي ينبغي إزالتها من الطريق. وفيما انكفأت المقاومة الاسلامية العراقية بعد حادثة "البرج 22" في الأردن عن استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق، جرّاء التهديدات الأمريكية لإيران، واصل "حزب الله" والحوثيين عملياتهم الإشغالية لإسرائيل والتضامنية مع غزّة.
تعطيل الملاحة جزئيًا، في باب المندب والبحرين الأحمر والعربي من قبل الحوثيين الذين نفذوا مناورة "معركة رمضان"، وضعهم في حالة حرب مع الولايات المتحدة وبريطانيا وبدرجة أقلّ مع الأوروبيين الذي دفعوا بقطع حربية بحرية موازية للحملة الأمريكية البريطانية، بهدف الضغط على الحوثيين الذين صعّدوا من عملياتهم باستخدام صواريخ بالستية متطوّرة أصابت عدّة سفن وأحرقت بعضها، ما جعل التدخل الأجنبي في البحر الأحمر أمام تحديات حقيقية من بينها التفكير بالتدخل البرّي في اليمن.
لبنانيًا، تجمّدت جهود المبعوث الأمريكي آموس هوكستين الهادفة لفصل جبهة لبنان الجنوبية عن جبهة غزّة، لأنّ "حزب الله" كما هو معلوم، يربط موقفه الإسنادي بوقف إطلاق النار في غزّة، ويخوض مواجهاته العسكرية مع جيش الاحتلال وفق قواعد اشتباك متحرّكة ومنضبطة في آن، وهي القواعد التي تضع الكيان الإسرائيلي أمام تهديد حقيقي "ينبغي إزالته" ضمانًا لأمن اسرائيل وعودة مستوطنيها من جهة، ولضمان البيئة الأمنية الاستراتيجية لمشروع بايدن الاقتصادي من جهة أخرى.
"مروءة" جو بايدن تستصعب موت الفلسطينيين جوعًا ولا تمانع موتهم قتلًا!
وإضافة للتهويل الإسرائيلي الغربي على "حزب الله" والحكومة اللبنانية من عدة موفدين، فضلًا عن تهديدات إسرائيل المعلنة بالحرب على لبنان إذا ما فشلت الجهود الدبلوماسية، فقد رفعت إسرائيل من وتيرة التهديدات درجات عليا تمثّلت بالإعلان عن قيام جيش الاحتلال بـ"تمرين عملياتي شمل تزويد الإمدادات اللوجستية جوًّا وبرًّا بين هيئة التكنولوجيات واللوجستيات وبالتعاون والقيادة الشمالية، وسلاح الجو وغيرها من الوحدات التابعة لذراع البرّ". وختم الإعلان عن المناورة بتأكيد "الجاهزية للحرب في الشمال ولشن هجوم أوسع اذا تلقينا الأوامر بذلك".
بالعودة إلى الكلام عن الهدن أو وقف إطلاق النار في شهر رمضان المبارك، علينا ألّا ننسى أنّ رمضان لم يمنع حلف الناتو على سبيل المثال، من شنّ حربه المدمّرة على ليبيا عام 2011، وهو حتمًا لا ولم يمنع الكيان الصهيوني من الحرب على الفلسطينيين الذين تستصعب "مروءة" جو بايدن موتهم جوعًا، ولا تمانع موتهم قتلًا!. أمّا العرب القابعين في قمقم الخوف من الحرب، فيتنازعهم خوفان.. خوف من انتصار "حماس" والمقاومة، وخوف من هزيمتهما.
والله غالب على أمره..
(خاص "عروبة 22")