تحوّلت الميليشيات في دول مختلفة إلى مصانع لتفريخ ميليشيات جديدة. وهي مهنة مَن لا مهنة له. بدأت هذه الميليشيات بصيغة كتائب قتالية أو أمنية، وتطورت إلى صيغة تنظيمات خاصة أو مجموعات حربية على شكل يقترب من تشكيلات عصابات، تتولى حماية منشآت مهمة أو شخصيات تتولى مسؤوليات حساسة. وفي العادة تلجأ النظم غير المستقرة أو الدول شبه الفاشلة أو الحكومات الفاسدة، إلى عصابات مسلحة تتولى حماية ما يمكن حمايته من منشآت، أو تنفيذ مهمات خارج القانون.
وكان لـ«الحرس الثوري» الإيراني السبق في الحرب بسوريا، من خلال ميليشياته المتعددة، ومن أبرزها: «جيش المهدي»، و«عصائب أهل الحق»، و«سرايا الخرساني»، و«حركة النجباء»، و«كتائب الإمام علي»، و«حزب الله العراقي»، و«الزينبيون». وتفرعت من كل تنظيم عشرات الفصائل في المحافظات العراقية، وسوريا، والحدود العراقية– الإيرانية، والمنصات في مياه العراق الخليجية، والبصرة.
وعمل قاسم سليماني قبل اغتياله من قبل الولايات المتحدة على بناء وتشكيل «الحشد الشعبي». وهذا التنظيم المدرع يتفوق في تسليحه على مجموعة «فاغنر» الروسية، إلا أنه أقل خبرة وانضباطاً وتدريباً. وتردد أن المشرف على «الحشد الشعبي العراقي» ينوي وضعه تحت سيطرة الحكومة لتحديد واجباته وتحركاته. ويسعى ما يسمى «الإطار التنسيقي» -وهو تنظيم موالٍ لإيران- لزيادة قوات «الحشد» إلى 238 ألف شخص، بزيادة تصل نسبتها إلى 95 في المائة في عدد الميليشيات التي تمولها الدولة.
قبل الإعلان عن مجموعة «فاغنر»، كانت مجموعة «بلاك ووتر» هي أشهر ميليشيا مرتبطة بالجيش الأميركي. وقد أدت دوراً تدميرياً في العراق بعد الاحتلال الأميركي في 2003. وقد تأسست في عام 1997 على يد رجل الأعمال وضابط البحرية الأميركية السابق إيريك برنس، لتقدم في البداية خدمات الحراسات الخاصة والتدريب. واشتهرت «بلاك ووتر» ذات السمعة السيئة بجرائمها ضد مدنيين عراقيين، وقتلها 14 مدنياً عراقياً بينهم طفلان في عام 2007، في مجزرة أدت إلى الحكم المؤبد أو 30 سنة على 4 من المرتزقة، إلا أن الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب أصدر عفواً عن المجرمين، ما أثار استياء الشعب العراقي. واضطرت الشركة لتغيير اسمها إلى «أكاديمي». ومرتزقة هذه الشركة خليط من جنسيات: كولومبيا، وجنوب أفريقيا، والمكسيك، وبنما، والسلفادور، وتشيلي.
وبدأت شركة «فاغنر» الروسية أعمالها في السودان منذ عام 2018، تحت غطاء شركة تبحث عن الذهب. وكان اسم هذه الشركة يتردد في كل صباح في الحرب الأهلية الحالية في السودان. وتنتشر عناصر «فاغنر» في بلدان أفريقية لتوفير الدعم والأمن لشركات التعدين الروسية والشركات التي تعمل معها. وجرى اتهام روسيا باستخدام «فاغنر» للسيطرة على الموارد الطبيعية في أفريقيا، خلفاً للاستعمار الأوروبي للقارة منذ القرن الثامن عشر الميلادي. وتسعى «فاغنر» إلى التأثير على الشؤون السياسية والصراعات الشخصية، في دول مثل ليبيا والسودان ومالي ومدغشقر.
لقد تحولت هذه الميليشيات الدولية إلى «جيش تحت الطلب»، مثلها مثل الميليشيات المحلية في العراق التي غرقت في سوق الفساد، من تهريب الأموال والمخدرات، واغتيال النشطاء الوطنيين الذين يرفضون هيمنة النظام الإيراني على المؤسسات السيادية العراقية.
الذين يقلبون أوراق لبنان السياسية في أيام العز من الخمسينات إلى الثمانينات، لم يقرأوا أخباراً عن الإرهاب أو الميليشيات بشكلها الحالي المعروف عن «حزب الله» الذي تغوَّل إلى دولة داخل الدولة.
الدولة القوية لا تحتاج إلى ميليشيات؛ لكنها تحتاج إلى حلول سياسية وتهدئة ومشروعات واستقرار وتنمية، مثلما فعل مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأشهر، ومثلما عمل لي كوان يو رئيس وزراء سنغافورة لثلاثة عقود، التي تحولت من ميناء متواضع شبه مظلم إلى دولة تشع بالأنوار والرافعات العملاقة وسفن النقل الضخمة، ومطار لا يتوقف لحظة واحدة، وليست فيه طائرات ركاب تظل تحوم في فضائه أكثر من ساعة لتجد فراغاً تهبط فيه بسلام.
كان مؤسس سنغافورة الحديثة يؤمن بأن القائد الذي يحظى بالاحترام هو ذو القبضة الحديدية؛ حيث قال: «إنه يعمل على هدم المعارضة. لماذا لا نهدمها قبل أن تبدأ؟ لأنها بمجرد أن تبدأ سيكون من الصعب علينا هدمها».
مختصر مفيد: الميليشيات لا تبني دولاً ولا حضارات، ولا تقيم علاقات متكافئة مع دول العالم؛ لكنها مصدر أساسي للفساد الحكومي والاغتيالات والإرهاب، وتدمير كل التوجهات المدنية لتقدم أي بلد
(الشرق الأوسط)