كما كانت الثورات الصناعية السابقة سببًا في اختفاء مهنٍ وظهور أخرى، فإنّ الثورة الرّقمية المعاصِرة، أو ما يُسمّيه البعض "الثورة الصناعية الرابعة"، تحمل احتمالًا أكثر جذريةً يتمثّل في انحسار العمل البشري إلى مستوياتٍ غير مسبوقة وربّما نهاية بعض أشكاله نهائيًا.
الدول العربية في قلب العاصفة
في دراسةٍ استشرافيةٍ أنجزتها "المدرسة الوطنية العليا للإدارة" في المغرب سنة 2019، تمّ التحذير من تغيّراتٍ عميقةٍ قد تُفضي إلى اندثار أشكال الشغل المعروفة اليوم لصالح أنماطٍ جديدةٍ يصعب التنبّؤ بجميع أبعادها في الحاضر أو المستقبل القريب. وعلى الرَّغم من أنّ الدراسةَ ركّزت على الحالة المغربية، فإنّ خُلاصاتها تنطبق على معظم الدول العربية التي تتشابه في بنيتها الاقتصادية وتواجه تحدّياتٍ متقاربةً، خاصّةً ما يتعلق بضعف القدرة على خلق فرص عملٍ مُستدامة، واعتمادها الكبير على قطاعات ذات إنتاجيةٍ منخفضةٍ وغير محميةٍ من تقلّبات السوق أو تغيّر المناخ.
تداخلت أزمات السياسة والاقتصاد والمجتمع مع التحوّلات التكنولوجية الكبرى
سبق لمفكّرين واقتصاديين بارزين، مثل جيريمي ريفكن (Jeremy Rifkin) في كتابه "نهاية العمل"، وبرتراند راسل (Bertrand Arthur William Russell) وهنري فورد (Henry Ford)، أن حذّروا من أنّ منطق الرأسمالية الساعي لخفض التكاليف وزيادة الإنتاج سيقود حتمًا إلى استبدال اليد العاملة البشرية بالتقنيات الذّكية، تجنّبًا للأعباء المرتبطة بالأجور والإضرابات والتعويضات، ممّا سيؤدّي إلى معضلةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ تتمثّل في وفرة الإنتاج مقابل تراجع الطلب بسبب البطالة وتدهور القدرة الشرائية.
تجد الدول العربية نفسها اليوم في قلب هذه العاصفة. فقد تداخلت أزمات السياسة والاقتصاد والمجتمع مع التحوّلات التكنولوجية الكبرى، وأدّى تراكم التغيّرات المناخية والاضطرابات السياسية التي تفجّرت منذ أحداث ما سُمّي بـ"الربيع العربي"، إلى جانب تداعيات جائحة كورونا والأزمة التضخميّة العالمية، إلى تراجع الجاذبية الاستثمارية لغالبيّة الاقتصادات العربية، باستثناء بعض اقتصادات الخليج. وتُشير الأرقام إلى واقعٍ مقلقٍ، فمعدّل البطالة في لبنان بلغ 35 في المئة، وفي تونس 16 في المئة، وفي الجزائر 12.7 في المئة، وفي المغرب 13 في المئة سنة 2025، بينما الوضع في سوريا واليمن والسودان والصومال يقترب من الانهيار الكامل للبنية الاقتصادية. وفي المغرب مثلًا، فَقَدَ القطاع الفلاحي أكثر من 250 ألف منصب شغل سنة 2024، بينما لم يتمكّن القطاع الصناعي خلال النّصف الأول من سنة 2025 من خلق سوى 2000 منصب، وهو رقمٌ ضئيلٌ يعكس تراجع قدرة الصناعة على التشغيل بفعل الاعتماد المُتزايد على الروبوتات وأنظمة الإنتاج الذكية.
ضعف البنية التكنولوجية العربية وتأخّر أنظمة التعليم والتدريب في مواكبة متطلّبات سوق العمل الجديد
هذا التحوّل لا يقتصر على الصناعة، بل يمتدّ إلى قطاع الخدمات الذي كان لعقودٍ طويلةٍ ملاذًا لليد العاملة التي فقدت وظائفها في الزراعة والصناعة. فالبنوك وشركات التأمين والخدمات اللوجستية ومراكز الاتصال باتت تعتمد على الأتمتة والبرمجيّات المُتقدمة، وأصبح إنجاز مهامّ كانت تتطلّب جهدًا بشريًا كبيرًا يتمّ اليوم عبر الخوارزميات والتطبيقات، الأمر الذي يُقلّل الحاجة إلى الموظفين ويؤدّي إلى تسريحهم تدريجيّا. حتّى القطاعات التي كانت تُشكّل فرصًا للعمالة غير المؤهّلة، مثل السياحة أو التجارة التقليديّة، بدأت تفقد قدرتها على التشغيل أمام صعود التجارة الإلكترونية والمنصّات الرقمية التي غيّرت قواعد السوق.
يجب إصلاح التعليم وربط التكوين الجامعي بمسارات الاقتصاد الرقمي وتعزيز الاستثمار في البحث والتطوير
وفي هذا الصدد، يطرح جيريمي ريفكن رؤيةً مزدوجةً لما يجري، فهو يرى أنّ التكنولوجيا ستؤدي حتمًا إلى ضمورٍ ثابتٍ في الوظائف قد يصل إلى درجة الإلغاء الكامل في بعض القطاعات، لكنّه يؤكّد في الوقت نفسه أنّ هذه التحوّلات قد تفتح الباب أمام نموذج اجتماعي واقتصادي جديد إذا أُحسن استغلالها. غير أنّ الوضع في العالم العربي يكشف أنّ المخاطر تطغى على الفرص، لضعف البنية التكنولوجية المحلية، وتأخّر أنظمة التعليم والتدريب في مواكبة متطلّبات سوق العمل الجديد، وهشاشة أنظمة الحماية الاجتماعية، واتّساع القطاع غير المهيكل الذي يُشكّل في المغرب مثلًا نحو سبعين في المئة من الاقتصاد.
سُبل المواجهة
إنّ مواجهة هذا الواقع تتطلّب من الدول العربية الانتقال من ردود الفعل الظرفيّة إلى وضع رؤيةٍ استراتيجيةٍ بعيدة المدى، تبدأ بإصلاحٍ جذريّ للتعليم ليُركّز على المهارات المستقبلية بدل الاكتفاء بالمعارف التقليدية، وربط التكوين الجامعي بمسارات الاقتصاد الرقمي، وتشجيع ريادة الأعمال في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد الأخضر والطاقة المُتجدّدة، وتعزيز الاستثمار في البحث والتطوير لخلق صناعات تكنولوجية محلية تُقلّل من التبعيّة للخارج، وتوسيع مظلّة الحماية الاجتماعية عبر آلياتٍ جديدةٍ مثل الدخل الأساسي الشامل لمواجهة البطالة الهيكلية، وتطوير البنية التحتية الرّقمية لتمكين المجتمعات من الانخراط في الاقتصاد الرقمي بفاعلية.
التحدّي أمام الدول العربية في تهيئة مجتمعاتها واقتصاداتها للتكيّف مع عالم سريع التغيّر
يبقى السؤال الجوهري هو ما إذا كنّا أمام سيناريو إفراطٍ في التشاؤم، أم إنّ التحوّلات الجارية تقودنا بالفعل نحو حقبة ما بعد العمل، لأنّ التاريخ يُذكّرنا بأنّ كلّ ثورة صناعية قضت على وظائف لكنها أوجدت أخرى، غير أنّ الفارق اليوم يكمن في سرعة التحوّل وعمقه، إذ إنّ المهن الجديدة تتطلّب مهاراتٍ عاليةً، بينما الوظائف التي تختفي غالبًا هي الأقلّ مهارة، ما يخلق فجوةً يصعب سدّها من دون إصلاحات جذرية.
في المُحصلة، لا يكمن التحدّي أمام الدول العربية في إيقاف عجلة التكنولوجيا، فهذا أمرٌ مستحيل، بل في تهيئة مجتمعاتها واقتصاداتها للتكيّف مع عالم سريع التغيّر، بحيث تصبح التكنولوجيا وسيلةً للتحرّر من العمل المرهق، لا أداةً للإقصاء والتهميش.
(خاص "عروبة 22")