سعيًا وراء نهضة عربية ذكية (1/2)خصائص بشرية قوية

لحُسن حظِّ النوع الإنسانيّ أنَّ العقل البشريَّ الطبيعيَّ لم يزل يَتصدّر قيادة المشهد الآليِّ الذكيّ، وأنَّ الآلة لا يمكن أن تُنَمْذِجَ الذكاءَ وحدها، من دون أن يؤدّيَ الإنسانُ دورَهُ الحاسم في نمذجة الخوارزميات الذكيّة للحواسيب الفائقة، وأنَّ الذكاء البشري نفسه يتطوّر تباعًا، ويُبهر الإنسانية بمفاجآته الإبداعية. ولا يمكن القولُ حقيقةً إنّنا نفهم الذكاءَ في أعماقِنا الغامضة، بل فهمنا له هو الآخر يزداد تطوّرًا مع تطوّره وتجلّيه في منجزاتِ تقدُّمِ البشرية. معنى هذا أنَّ التنوّع الثقافيّ والتنوّع الديموغرافيّ مهمّانِ في تنويع الذكاء الإنساني وتطويره.

سعيًا وراء نهضة عربية ذكية (1/2)
خصائص بشرية قوية

اليوم، تزحف إلينا نحن العرب تكنولوجيا الأنظمة الذكية التي تُمثّل حاليًا قمّة التطوّر الإنساني في مختلف المجالات، وما كان لهذه التكنولوجيا لتصِلَ إلى ما وصلت إليه من تقدّمٍ لولا "النهضة الذكية" الغربية المنطلقة منذ عقودٍ قليلة، يصاحبُها تغييرٌ حادٌّ في أنظمة التفكير العلمية والإنتاجية والخدمية، فابتكر الإنسان الآلية البرمجيّة التي تقوم بأعمالٍ ذكيةٍ توازي ذكاءه الطبيعيّ وتفوقه في بعض تمثّلاته.

من أهمّ الخطوات اللّازمة تفعيل طاقاتنا البشرية الشابّة والخبيرة ودعمها المعنويّ والماديّ

ها هي نماذج اللغة الكبيرة (LLMs) تنتشر في مختلف أنحاء العالم بأشكالها الثقافية والاجتماعية الغربية والشرقية المتنافسة، ما يجعلنا في بلداننا العربية المتأخّرة في أوجِ امتحانٍ حضاريٍّ عسيرٍ؛ في اللغة، والثقافة، ونمذجة المعرفة والمجتمع بعامّة.

ما هي مشاركاتنا ومنجزاتنا في هذا المجال؟ ما محاسنها ومساوئها؟ ما هو المطلوب الفعلي منّا لإثبات ذاتنا المغايرة؟ ولتحقيق غاياتنا المنشودة في الوجود والصعود الحضاري بين الأمم المتفوّقة؟.

إنّ مثل هذه الأسئلة تتطلّب منّا حراكًا مجتمعيًّا فاعلًا على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، إلى جانب ترقية أنظمتنا الإدارية، تخطيطًا وتنظيمًا وتنسيقًا ورقابةً وتوجيهًا... إلخ. بإيجاز، نحتاج إلى تفاعلٍ نهضويٍّ حتّى نلحقَ بمستويات الحضارة الغربية، وربما نفوقها علمًا وبحثًا وإنتاجًا إذا ما اعتمدنا على أنفسنا في هذه الجوانب، واستطعنا فعلًا أن نُوازنَ معطيات العصر الذكيةَ بأدوات نجاحِنا المطلوب، وأُسُسِه، وآلياتِه.

من أهمّ الخطوات اللّازمة في هذا النهج، الالتفات جدّيًّا إلى تفعيلِ طاقاتِنا البشرية الشابّة، والخبيرة، ودعمها المعنويّ والماديّ، وفتحِ كلّ الفرص الممكنة أمامها للنهوضِ الذكيّ المطلوب؛ فنحن في الواقع نمتاز بخصائص سكّانيّة قويّة في مقابل البلدان المتقدمة، وخصوصًا أوروبا، كنموذجٍ حديثٍ للنهضة والتطوّر التكنولوجي. إنّنا بعيدون عن الترهّل السكّانيّ الذي تعاني منه أوروبا حاليًّا، بما له من خطورةٍ على مكانتها الحضارية.

الخبراء وذوو المعرفة والتجربة الحاسوبية والبرمجيّات الذكية ورقة قويّة في رهانات التطوّر المستقبلي لهذه الأمّة

مثلًا، الفئات العمرية التي يمكن التعويل عليها في جهود التنمية والنهضة العربية المطلوبة، سواءَ في الوقت الحالي أو لعقدَيْن أو أكثر من الزمان القادم؛ نجد الفئة العمرية (15-40) عامًا، بنسبةٍ مُهمّةٍ جدًّا من إجمالي السكان العرب، وأمامها الكثير لتحقّقَه. يمكن استخراج هذه النسبة من الإحصاءات الوطنية أو الدولية كتوقّعات "الأمم المتحدة للسكان" و"بيانات البنك الدولي" المفتوحة، بحيث تصل النتيجة إلى حوالى 37-43% من إجمالي السكان، وقد تصل إلى 45% في بعض البلدان مثل الجزائر والمغرب؛ بينما عدد السكان العرب في آخر الإحصاءات المعتمدة ليس بأقل من 480 مليون نسمة (الأمم المتحدة 2024 - UNESCWA)، وربّما بلغ 492.6 مليون نسمة (البنك الدولي 2024 - FRED).

معنى هذا، وباستخدام متوسطات التقديرات المذكورة، فإنَّ عدد السكان العرب حوالى 486.3 مليون نسمة، وعدد الفئة العمرية 15-40 حوالى 199.383 مليون نسمة؛ وهذا عددٌ له شأنٌ إذا ما أُحسِن توجيهُهُ وتوظيفُهُ تنمويًّا ونهضويًّا على الوجه المطلوب، بخاصة أنَّ هذه الفئة العمرية ترتبط عمليًّا بالفئة العمرية الأكبر منها سِنًّا (ما بعد الأربعين عامًا). ولا شكَّ أنَّ من هؤلاء مئات الآلاف من الخبراء في شتّى المجالات التقنية الرابطة بين الأجيال، وبينهم كثيرٌ من ذوي المعرفة والتجربة الحاسوبية والبرمجيّات الذكية. الأمر إذن، يُعتبر ورقةً قويّةً في رهانات التطوّر المستقبلي لهذه الأمّة.

في المقابل، تُقدّر نسبة الفئة العمرية 15-40 للاتحاد الأوروبي 30% من عدد السكان (Eurostat 2024)، في حين متوسّطها في البلدان العربية: 41% تقريبًا، كما أشرنا... بينما يُقدَّر متوسط سنوات العمر المتوقّعة في هذه البلدان حوالى 72.44 عامًا، وفي دول الاتحاد الأوروبي حوالى 81.15 عامًا، بحسب إحصاءات البنك الدولي لسنة 2023. أيضًا، متوسط الإنجاب لكلّ امرأة في الدول العربية أقلّ من 3 مواليد بقليل، وتحديدًا 2.78، حسب "global gender gap report 2024"، في مقابل مواليد الاتحاد الأوروبي 1.38 لكل امرأة، ويُتوقّع لهذه السنة 2025 متوسط 1.41، حسب إحصاءات "statista".

للعرب خصائص سكانيّة قويّة تدعم المجالات التطوّرية الذكيّة وهناك فُرص ومشاريع كثيرة للمؤسسات العربية

الخلاصة، أنَّ هذه الإحصاءات السكّانية اللّافتة هي في صالح البلدان العربية من حيث إمكانياتها البشرية الشابّة، وأنَّ الفرصة سانحةٌ أمام أجيالنا الصاعدة للّحاق بركب النهضة الذكية الغربية، وقوافلها الجادّة في عوالم الرقميات الحُبْلى بشتّى احتمالات التطوّر الإنساني. يبقى بعض المحاذير التي ينبغي الانتباه إليها جيدًا في هذا الخصوص، فيما يُعرف بالترهّل الديموغرافي، بمعنى فقدان الحيوية السكّانية، لأسباب الهجرة أو الحروب أو قلّة الإنجاب التدريجي.

ومثلما أنَّ للعرب خصائصَ سكانيّةً قويّةً تدعم المجالات التطوّرية الذكيّة، فضلًا عن إمكانياتهم الطبيعية الثريّة، فإنَّ هناك أيضًا فُرصًا ومشاريع كثيرةً جاريةً للمؤسسات العربية العامة والخاصة، علميةً وبحثيةً وإنتاجيةً، سواءَ في مشرق العالَمِ العربيّ أو في مغربه. فما هو حَظُّ العربِ العمليُّ في هذا المجال الآليِّ الذكيِّ، حتّى الآن؟ وما هي العيوب أو العوائق التي تعترضُ تقدُّمَهم بشأنه، وما السُّبُل الناجعةُ لتجاوز هذه العوائق؟.. هذا ما سنتطرق إليه في الجزء الثاني من هذا المقال.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن