لم يكن هذا الانقسام مجرد قضية نظرية، بل كان تحديًا واقعيًا أعاق تشكيل كتلة تاريخية تتسم بالانسجام والتجانس، تتحرك بثقة على دروب التاريخ، وأفضى إلى وجود كتلتين منفصلتين، نشأت بينهما حالة توازن شبه فيزيائي، يندر وجودها في المجتمعات الحية، تقوم على التماثل في القوة، والتضاد في الاتجاه على نحو أفقد المجتمعات العربية حس الاتجاه الرئيس، فلم يعد هناك تيار عريض يتدفق على طريق التقدّم ولو كان ثمة هامش معاند له، بل تياران متعاكسان يعطلان بعضهما البعض، ويصنعان الركود التاريخي الذي يحيطنا.
أخفق التيار القومي في قيادة المجتمعات العربية.. والتطرف في الأدلجة غالبًا ما يفضي إلى الهزيمة والتراجع
فبينما أخذت الكتلة الحديثة، النحيفة، تفسّر ضعفنا السياسي وهزائمنا العسكرية، بالتردد في إجراءات التحديث: العلمي، والثقافي، والسياسي، استمرت الكتلة التقليدية تبرر ذلك كله بالبعد عن شرع الله، وغياب الخلافة الإسلامية، ومن ثم فالحل لديها هو مجرد الانقلاب على السلطات القائمة (الحديثة لكن المأزومة) واستبدالها بأخرى إسلامية (أصيلة وفعالة) تستطيع مواجهة العدو بشجاعة، وبالطبع لم يكن العدو هو التخلف الحضاري الساحق بل الغرب اللعين.
اتخذ هذا الانقسام أشكالًا سياسية عدة من قبيل التقدمية والرجعية، الاعتدال والمقاومة، "فتح" و"حماس"، أما الصيغة الإيديولوجية له فتمظهرت في جدل القومية العربية كتجسيد للمرجعية الحديثة في نزعتها التوفيقية، والإسلام السياسي كتجسيد للمرجعية التقليدية في نزعتها الحركية.
أخفق التيار القومي في قيادة المجتمعات العربية حينما تحوّل إلى إيديولوجية سياسية مقتحمة، حاولت فرض نفسها باسم التقدمية على النظم الرجعية، خصوصًا في اليمن. وبفعل الانشقاقات داخل المعسكر التقدمي نفسه، خصوصًا بين البعث السوري والعراقي. وفي المقابل فشل الإسلام السياسي في وراثة الفكرة القومية، فلم يتمكن من بلورة معارضة عقلانية لنظم الحكم القائمة قبل الربيع العربي، ولا من الحلول محلها فيما بعده، الّلهم في بعض التجارب القصيرة والفاشلة.
لكن ثمة تباين كبير في طبيعة وملابسات الفشل على الجانبين، إذ تميّزت الموجة القومية/الناصرية بالحداثة الثقافية، ومركزية الحس الوطني، وروح العدالة الاجتماعية، ونزعة التحرر الإنساني. عكس الموجة الإسلاموية/الإخوانية، التي مالت إلى مهادنة الاستعمار بل والتحالف مع بريطانيا ثم الولايات المتحدة، ولم تنشغل بقضية العدالة الاجتماعية، أو التحرر الوطني. ومن ثم فالموجتان غير متعادلتين إطلاقًا عند التقييم التاريخي، وإن ظلّ المغزى قائمًا: وهو أنّ التطرف في الأدلجة غالبًا ما يفضي إلى الهزيمة والتراجع إن عاجلًا أو آجلًا.
رسالة المصالحة لا بد وأن تتأسس على قاعدتَـيّ العروبة والإسلام معًا
لقد آن الأوان لأن تتصالح مجتمعاتنا مع نفسها وأن ترمم كتلتها التاريخية عبر المصالحة بين المرجعيتين الثقافيتين الرئيستين، كي تتمكن من استيعاب تنوعاتها العرقية والدينية والمذهبية. رسالة المصالحة هذه لا بد وأن تتأسس على قاعدتَـيّ العروبة والإسلام معًا. العروبة كهوية ثقافية وإستراتيجية جامعة ومتفتحة تحترم الدولة الوطنية القائمة أيًا كان شكلها، بشرط أن تحترم تلك الدولة ما يترتب على الهوية القومية من التزامات كالتضامن والتكتل مع الشقيق كي لا تكون هوية خاملة. والإسلام، في مفهومه الحضاري وقيمه المتسامحة، القادر على احتضان التعددية العرقية والاختلاف المذهبي، وليس الإسلام السياسي ذا الطبيعة الإيديولوجية المنغلقة، والنزعة الإقصائية المثيرة للفتن الطائفية والمذهبية، والتي باتت تمثل خنجرًا في خصر اجتماعنا المتمدين، ما يفرض على المرجعية الإسلامية التنازل عن نزعتها الجهادية بيقين، وروحها الطائفية بالطبع، ومشروعها السياسي بالكلية، والقبول بنمط معتدل من العلمانية، يتم بمقتضاه علمنة السلطة دون الأخلاق، والفصل التحكمي بين مجال عام سياسي محايد إزاء الأديان والمذاهب، وبين مجال شخصي يقبل بممارسة المعتقدات الدينية، ما يعنى الاكتفاء بالتعبير عن نفسها عبر المكوّن القيمي والروحي، الذي يحفظ للشخصية الإنسانية تماسكها وتوازنها، ويمنحها الحق في التحلي بالأخلاق التي تريدها على قاعدة السلام النفسي والسلم الأهلي.
(خاص "عروبة 22")