لا يجادل أحد بأنّ أوضاع عموم المصريين أصبحت أسوأ في ظل نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي (حكم بدايةً من يونيو/حزيران 2014)، فنظرة إلى قيمة الجنيه المنهارة من 8.8 جنيه لكل دولار في 2016، إلى 50 جنيهًا لكل دولار الشهر الجاري، كافية جدًا لتخيّل معدل التراجع الذي أصاب قيمة مدخرات المصريين، مع مضاعفة مصاعب مواجهة تكاليف الحياة اليومية في ظل ارتفاع معدلات التضخم بصورة تاريخية.
تصاعد الأسعار غير المسبوق جعل حلم الكثير من المصريين هو ثبات الأسعار لا تراجعها، في ظل ارتفاع معدل الفقر إلى 35.7% في 2022/2023، بحسب دراسة مستقلة أجرتها مستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، هبة الليثي، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وقتها كان الدولار بـ30 جنيهًا رسميًا، ولنا أن نتخيّل كم الزيادة في هذه النسبة مع التراجع الحاصل مؤخرًا في قيمة الجنيه.
60 % من الشعب المصري في سن الشباب وهي طاقة مهدرة في ظل هيمنة منظومة الفساد والواسطة
يضاف إلى الأزمة الاقتصادية التي تضغط على أعصاب المصريين بشكل يومي، حالة التجريف السياسي التي تعيشها البلاد، بفعل إجراءات النظام الرافضة لأي مناخ تعددي حقيقي، لا مجرد تمثيلية يحفظ الجميع أدوارهم فيها، بالتوازي مع تشديد قبضة القمع والرفض لوجود أي صحافة حرّة، مع تغييب صوت الانتقاد للأخطاء، والاعتماد على الأداء الجماعي للمؤيدين بلا أي تعقل أو توقف لدراسة جدوى القرارات المتخذة.
يتوازى هذا كله مع حراك اجتماعي يتفاعل مع الأزمة الاقتصادية، فمن ناحية أصبحت عملية الزواج كابوسًا للعديد من الشباب بسبب التكاليف المرتفعة، وهو أمر يمكن ملاحظته في تأخر سن الزاوج في المدن، بالتوازي مع زيادة معدلات الجريمة والعنف بحسب ما يرصد المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية، مع الأخذ في الاعتبار وجود 60% من الشعب المصري في سن الشباب، وهي طاقة مهدرة في ظل هيمنة منظومة الفساد والواسطة، الأمر الذي يولّد احتقانًا اجتماعيًا كبيرًا في مجتمع يعاني من انعدام تكافؤ الفرص.
كل ما سبق هو نتائج مباشرة لسياسات السنوات العشر الأخيرة، أي ما بعد ثورتَي 2011، و2013، لذا يبدو أنّ الثورة لم تجعل حياة المصريين أفضل، فتغيير نظام مبارك ثم نظام "الإخوان"، لم يجلب السعادة لحياة المصريين، بل أصبحت أكثر شقاءً اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، حتى وصلت الأمور إلى حافة الانفجار أو تكاد، لذا يبدو سؤال المراقبين عن موعد ثورة المصريين منطقيًا، وإن لم يكن بالضرورة واقعيًا.
يمكن إرجاع رفض الشعب المصري التعبير عن غضبه في اللحظة الراهنة، إلى ما هو معتاد ومكرر أي أنّ طبيعة المصريين ترفض التغيير العنيف الفجائي، أو ربما يلجأ البعض إلى التجربة التاريخية المتراكمة التي جعلت المصري يؤمن بضرورة حضور نظام قوي - حتى ولو كان فاسدًا ظالمًا - من أجل تسيير الحياة في بلد اعتمد بالكامل على وجود حكومة مركزية لإدارة نهر النيل وتوزيع المياه.
رغم أنّ أوضاع المصريين أصبحت أسوأ إلا أنهم لا يفكرون في الثورة وهم يتابعون شعوب المنطقة تغرق في الفوضى
يمكن تفهّم هذه الآراء لكن طبيعة المصريين تغيّرت كذلك، والتجربة الأهم الحاسمة هنا هي ما عاشوه في فترة يناير - يونيو، لذا نستطيع أن نقول إنّ المصريين في اللحظة الراهنة كفروا بالمسار الثوري، ولم يعد لديهم أي إيمان بقدرته على تغيير الأوضاع للأحسن، وفي ظل تجريف النظام السياسي لكل النخب، لم تعد هناك شخصيات على الساحة محل تقدير وثقة. لذا رغم أنّ أوضاع المصريين أصبحت أسوأ في العموم إلا أنهم غالبًا لا يفكرون في الثورة وهم يتابعون شعوب المنطقة تغرق في الفوضى.
يرغب المصري المعاصر بعد تجارب ثورية فاشلة في الاستقرار والحفاظ على إيقاع الحياة هادئًا، ربما أقصى طموحه الوصول إلى نوع من أنواع العقد الاجتماعي مع النظام السياسي الحاكم يقلّل من أضرار قرارات الأخير الاقتصادية التي لا تفيد إلا مجموعات محدودة وشبكة مصالح بعينها. يبدو هنا وكأنّ المصريين المعاصرين قد استُنزفوا تمامًا، أو أنهم فضّلوا تأجيل الخيار الثوري للمستقبل، أي ألقوا بالمسؤولية على الأجيال القادمة.
(خاص "عروبة 22")