مراجعات

الاستحواذ العقاري للاستعمار الفرنسي: تونس نموذجًا

لئن تبدو عديد الإشكاليات التي تواجهها الدول العربية حاليًا قضايا معقّدة، فإنّ تقليب زوايا النظر والتعمّق فيها يكشف أهمّية العوامل التاريخية في تشكّلها وتطوّرها مثل قضايا الأمن الغذائي والنعرات الطائفية وترسيم الحدود وغيرها. وتُعدّ في هذا السياق قضية الاستعمار الفلاحي وتأثيراته المستمرّة إلى اليوم، وتظهر في اختلال التوازن بين المنتوجات الفلاحية المعاشية والمنتوجات الفلاحية التصديرية، وسوء استغلال الأراضي الدولية الشاسعة من الملفّات التي تحتاج إلى تظافر مختلف الخبرات المعرفية لمعالجتها معالجة جذرية.

الاستحواذ العقاري للاستعمار الفرنسي: تونس نموذجًا

نحن في ضيافة كتاب "الاستحواذ العقاري الفلاحي للاستعمار الفرنسي بأرياف القيروان: آليات الاستيلاء وطرق الاسترجاع (1900-1964)، وألّفه الأستاذ الجامعي المتميّز التليلي العجيلي، صدر مؤخرًا في طبعة مشتركة بين كلّية الآداب بمنوبة ومجمع الأطرش.

الكتاب عملٌ متينٌ فيه حفرٌ معرفيٌ وأركيولوجيٌ عميقٌ في الإرث الاستعماري الفرنسي الثقيل، ونوعية السياسات الوطنية المعتمدة في تجاوزه، ومدى جدّيتها في حسم تلك الملفّات الشائكة التي من أبرزها ملف الجلاء الزراعي.

لئن بدا هذا الكتاب الجديد متباينًا في ظاهره عن الحقل البحثي الذي ظلّ يتحرّك فيه التليلي طيلة عقود فاشتهر بالبحث في التاريخ الديني من خلال إصدار عديد الكتب حول "الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية (1881-1939)، و"أوقاف الحرمين بالبلاد التونسية (1731-1881)، و"حركة الجامعة الإسلامية في المغرب العربي (1876-1918)، فإنّه يشدّه خيط ناظم ببقية الأعمال ليس من ناحية تقارب الحقبة التاريخية المدروسة المتّصلة بالاستعمار الفرنسي وحسب، وإنّما كذلك في الجودة المعرفية والمنهجية للعمل.

اعتمد المؤلّف لأوّل مرّة على الرسوم العقارية لأراضي المعمّرين أنفسهم المنبثقة عن قانون التسجيل العقاري الصادر يوم 1 تموز/يوليو 1885. كما عاد إلى مختلف الأوامر والقرارات التي لها صلة ما بذلك القانون بما أنّها شكّلت "ترسانة قانونية وتشريعية" على حدّ تعبيره.

توزع الكتاب على محورين: آليات الاستحواذ العقاري وسياسات السلطة البورقيبية لاسترجاع الأراضي الفلاحية

إذا كان الكتاب قد توزّع على قسمين كبيرين تفرّعت فصولهما وتعدّدت وتدرّجت من وصف المجال الطبيعي والبشري لجهة القيروان إلى تقليب أوجه النظر في ردود الفعل الشعبية والرسمية تجاه الاستحواذ العقاري، فإنّه من الممكن اختزال العمل في محورين أساسيين: يتعلّق المحور الأوّل بطرق الاستحواذ العقاري وآلياته الخاصّة، ومحور ثانٍ حاول فيه المؤلّف البحث في المسكوت عنه المتّصل بسياسات السلطة البورقيبية لاسترجاع الأراضي الفلاحية لا سيما بعد صدور قانون التأميم الزراعي الصادر يوم 12 أيار/مايو 1964.

لئن ميّز المؤلّف بين آليات الاستعمار الرسمي وآليات الاستعمار الخاصّ في الاستحواذ العقاري الفلاحي، فإنّنا سنكتفي بالإشارة إلى نوعية الآليات الخاصّة. ومن هذا المنطلق تتعلّق آليات الاستعمار الخاصّ باستغلال ثغرات التشريع التونسي، وإعادة تأويل التشريع الإسلامي حسب مصالح الأيديولوجيا الاستعمارية. يكفي التذكير باستغلال الاستعمار للأراضي "الموات" وخاصّة أراضي الأوقاف وأراضي القبائل الرحل التي توجد في تسجيلها نقائص ومتشابهات كثيرة.

وقد عمدت السلطة الاستعمارية إلى سنّ قانون التسجيل العقاري في 1 تموز/يوليو 1885 حيث تضمّن 14 بابًا و381 فصلًا، وهو قانون مستوحى من "قانون طورانس" المعتمَد بأستراليا لمرونته وتسهيله لعملية الاستحواذ بحكم أنّه يجيز التسجيل العقاري الكامل حتّى في صورة وجود إشكال ما بعد تسجيل الأرض، لأنّه لا يمكن تمكين الشاكي إلا من تعويض محدّد. كما تمّ توظيف هياكل جديدة لتطبيق القانون الجديد مثل المحكمة المختلطة العقارية والمصلحة التوبوغرافية التي بعثت سنة 1886.

أمّا في المحور الثاني فلئن ذكّر المؤلّف بردود أفعال أهالي القيروان المدافعين عن اغتصاب أراضيهم مثل رفع العرائض للسلطة القائمة والتقاضي، فإنّه حرص على البحث في خلفيات تأخّر إصدار قانون التأميم الذي صدر بعد ثماني (8) سنوات على استقلال تونس. وقد استند المؤلّف في شكّه وتساؤله إلى التصريحات والاتفاقيات التي وقّعتها السلطة البورقيبية خلال 13 تشرين الأول/أكتوبر 1960 و2 آذار/مارس 1963، حيث أكّدت كلّها حرص السلطة البورقيبية على ليونة تعاملها مع المعمّرين الفرنسيين وتمكينهم من تعويضات مالية مقابل تسليمهم لأراضيهم بالتنسيق مع الحكومة الفرنسية.

ينتهي المؤلّف إلى الإقرار بأهميّة الخلفيات السياسية والأمنية في إصدار قرار التأميم الصادر يوم 12 أيار/مايو 1964. فعلى خلاف الهالة الإعلامية التي صاحبته وروّجت لطابعه الثوري، فإنّ تونس لم تسترجع إلاّ 30% من أراضيها الفلاحية بجهة القيروان عبر التأميم.

لقد فصّل الأستاذ التليلي مختلف العوامل الداخلية والخارجية التي تقف وراء ذلك القرار، منها تتالي الأزمات الاجتماعية والسياسية بتونس عقب تصريح بورقيبة الشهير بالبالمريوم في خصوص جواز الإفطار في رمضان إن كان ذلك يؤثّر في العمل يوم 5 شباط/فبراير 1960، وما تمحّض عنه من جدل، ومظاهرة القيروان في 17 كانون الثاني/يناير 1961، والمحاولة الانقلابية التي شارك فيها عسكريون ومدنيون ينتمون إلى رموز حركة الكفاح الوطني والزيتونة يوم 14/12/1964 أمثال لزهر الشرايطي وعبد العزيز العكرمي وأحمد الرحموني، فضلًا عن رغبة بورقيبة في الظهور بمظهر الزعيم الثوري الذي لا يتردّد في أخذ القرارات الثورية أسوة بأحمد بن بلّة الذي أصدر قانون الجلاء الزراعي بالجزائر في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1963 أي قبل صدور قانون الجلاء الزراعي التونسي بأشهر قليلة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن