وباعتبار أنّ منظومة صناعتها، عمليًا، تندمج فيها أنشطة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بأنواعها، عتادًا، وبرامج، وإجراءات، وتوثيقات؛ شاملًا ذلك آخر التطورات في أنظمة المعلومات، والمعرفة، والنمذجة الذكية السمعية والبصرية، وخوارزميات التعلم الآلي، ومعالجة اللغة البشرية آليًا، إلخ. فلا شك أنّ الدور التنموي والنهضوي الحقيقي لصناعة البرمجيات في عالمنا العربي، إنما يأتي بعد تحقيق توطينها الفعلي في منظومات اقتصاداتنا الوطنية. الشيء الذي يعني انتهاج سبيل التوطين أولًا؛ ثم ثانيًا، وضع هذه الصناعة على النهج القويم للتقدم العربي الكوني.
بالنظر في الشق الأول (سبيل التوطين).. يلاحظ أنه في الوقت الذي يعني فيه سبيل التوطين، الوعي بأسباب ضعف صناعة البرمجيات العربية، وضرورة العمل على معالجتها؛ فهو كذلك يعني الإلمام بعوامل نجاحها في بيئتنا العربية.. بيئة اللغة والثقافة المختلفتين عن بيئات المجتمعات الغربية، المطوّرة لصناعة البرمجيات المنتشرة عالميًا.
إذن، كيف يمكننا توطين صناعة البرمجيات بنجاح؟
بالنسبة لأسباب الضعف فهي كثيرة. منها أسباب ضعف ذات علاقة مباشرة بصناعة البرمجيات، ومنها أسباب غير مباشرة، تتعلق بالمنظور التكنولوجي العام في الدول العربية، وعلاقة مجتمعاتنا بها، خاصة مستويات التعليم، والبنى التحتية، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتقلبة. هذه الأسباب المتعددة، أحصيناها في حوالى 20 سببًا، في بعض دراساتنا السابقة. (هندسة البرمجيات العربية، مخطوط، 2018).
وهي، بإيجاز، تدور حول 4 محاور رئيسية:
• الكفاءات والخبرات التقنية والتجارب المختلفة.
• السياسات والإستراتيجيات والتشريعات القانونية.
• استقلالية البحث والتطوير والإنتاج والتوزيع.
• دعم الدولة وتشجيع الاستثمار الخاص.
في وضعها الحالي، تشير المحاور الأربعة المذكورة، إلى حالات متباينة من القصور والفشل لمخرجاتها المرجوة. ذلك في ظل ضعفها الشديد بمنظور التوطين المطلوب، الذي يتفاعل مع المجتمعات العربية ثقافةً وفكرًا وخصوصيةً وتميزًا على مستويات الهوية والابتكار والحضور المحلي والإقليمي والإنساني... وهذه المحاور هي في الواقع أهم قضايانا في التنمية الشاملة، والتي يؤدي تحليلها وبحثها وتأملها بعمق إلى تبيان سبل النجاح المنشود، وعوامله الفاعلة بقوة في ترقّي المجتمعات العربية وتحقيق نهضتها المعاصرة.
من الضروري أن تتشارك في الإنتاج الشركات والمؤسسات العربية المدعومة من الحكومات والمستثمرين العرب
في إدراكي، وبحسب بعض تحليلاتنا، (توطين صناعة البرمجيات وريادة الأعمال: منظور محلي وعربي، ورقة بحثية، 2023)، فإنّ عوامل النجاح المعنية لا تقل عن 20 عاملًا مهمًّا، في مختلف سياقاتها المتكاملة، معرفية وقانونية واقتصادية وإدارية وثقافية، إلخ. ويمكن تكثيفها في 8 عوامل رئيسية:
• وضع السياسات والإستراتيجيات والتشريعات المناسبة لصناعة برمجيات متطورة.
• تقوية الدعم الحكومي بدرجات عالية، وتشجيع الاستثمار المحلي الخاص.
• تمتين العلاقات مع دور الخبرة والشركات والمنظمات العالمية.
• التسويق العربي والدعم الاقتصادي المشترك.
• إطلاق مشاريع بحثية وتطبيقية لأتمتة اللغة العربية.
• التطوير المعرفي النظري والعملي والرفع من مستويات التعليم والتدريب.
• التوجه نحو الإدارة الموحّدة عربيًا، والتخطيط المشترك في صناعة البرمجيات.
• تعزيز مستويات الإعلام التكنولوجي والثقافة الرقمية العربية.
لكل من هذه العوامل المذكورة، آفاق جديرة بالتحليل الموضوعي، ورصدها، في رؤية إيجابية لإنجاح التوطين الحقيقي لصناعة البرمجيات، من وجهات نظر مختلفة سواء من قبل الخبراء التقنيين، أو الاجتماعيين والقانونيين والإداريين، أو السياسيين والاقتصاديين بحسب أوضاع البلدان العربية وخصوصياتها المحلية.
أما، ما يتعلق بالشق الثاني، المشار إليه آنفًا؛ كيفية وضع صناعة البرمجيات على النهج القويم لتقدّمنا الكوني؛ فهو أمر يرتبط مباشرة بخصائص البرمجيات المنتجة عربيًا، ومواصفاتها الموجهة بمنظور حضاري نهضوي. بمعنى أنها من الضروري أن تحمل في طياتها رسالة النهوض العربي، وتتشارك في إنتاجها الشركات والمؤسسات العربية المدعومة من قبل الحكومات والمستثمرين العرب، وفق أطر مخطط لها جيدًا، وآليات تنفيذ واعية.
أولوية عربية مشتركة على طريق نهضة المجتمعات المتداخلة طبيعيًا وافتراضيًا
وهي بشكل عام، لا بد أن تتوفر على خصائص تقنية، وجمالية، تحتوي في نماذجها البرمجية سمات الهوية والثقافة والمعرفة واللغة، وكل ما يعزز الانتماء العربي والشخصية المتميزة، ويعطي للفعل الحضاري العربي وجوده التفاعلي المغاير في المجتمعات الشبكية.
ذلك يتطلب إمكانيات ومواصفات محددة في البرمجيات العربية، مثلًا:
توظيف الرمز العربي، من التاريخ والحضارة والجغرافيا والمثل والقيم العربية الأصيلة.
خلق بيئة التفاعل ذات الخصوصية المعرفية العربية، بمختلف روافد المعرفة والتراث والحداثة.
توظيف ما أمكن من بؤر مضيئة في الفكر العربي الحديث، خاصة فيما أُطلق من مشاريع فكرية نهضوية، جديرة بالاهتمام.
تعزيز عناصر التواصل مع الآخر المتقدّم تقنيًا وحضاريًا، وإبراز المقومات العربية الإنسانية من خلال التكنولوجيا المصنّعة عربيًا.
إنّ كل ما تشمله هذه الإمكانيات والمواصفات، يستوجب تفعليها من خلال أعمال لجان عربية متخصصة، وأنشطة فرق عمل ذات كفاءات عالية، تقنية واقتصادية واجتماعية... ولها خبرة واسعة في مجال التطوير التكنولوجي والمنظور التكنو-اجتماعي بشكل خاص. وهو الرأي الذي طرحناه في أكثر من مناسبة سابقة، ونأمل أن يلتفت إليه أصحاب القرار العربي، كأولوية عربية مشتركة على طريق النهضة العربية البديلة، نهضة المجتمعات المتداخلة طبيعيًا وافتراضيًا.
(خاص "عروبة 22")