اقتصاد ومال

آفة العدالة الاجتماعية في البلاد العربيّة

منذ "إعلان كوبنهاغن" بشأن العدالة الاجتماعية والتّنمية، يبقى مفهوم العدالة الاجتماعية مرتبطًا بالمقاربة الحقوقية المستندة إلى حق الإنسان في التمتّع بمجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة والثّقافية. وهي الحقوق التّي صيغت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وضمّنته رزمانة واسعة من العهود والمواثيق الدولية.

آفة العدالة الاجتماعية في البلاد العربيّة

من ثمّة، قد طغى الجانب الحقوقي على البُعد الفلسفي والتجريبي في التّنمية. وأصبح الخطاب الحقوقي قي علاقته بالتّنمية سياسيًا أكثر منه علميًا، هدفه خلق توازنات سياسية دولية تتحكّم فيها الليبيرالية المتوحّشة. لذلك سنتجاوز المحدّد الحقوقي للعدالة الاجتماعية ومكر ملفوظه كما هو منصوص عليه في المادة الأولى من إعلان حقّ التّنمية للجمعية العامة، لأنّه كشف عن ازدواجية المعايير بتحيّزه العملي لتآلف الإرادتين الإمريكية والإسرائيلية أمام حرب الإبادة التي يتعرّض إليها شعب غزّة.

بدايةً لا بدّ أن نقرّ أنّ البلاد العربية تفتقد إلى رؤية منسجمة ومتكاملة تخصّ العدالة الاجتماعية في ارتباطها بالتّنمية. وهذا سبب أصليّ لكل اختلالاتها الدّاخلية والخارجيّة وآفة تخلّفها عن الانخراط في الفضاء الحضاري الكوني الذّي يزداد توسّعًا بإحداث ثورات علمية متجدّدة وقطائع حاسمة مع نماذجها التنمويّة المتقادمة.

عطالة التّنمية وفشل الاقتصاد يرتبطان باحتكار القرار السياسي الذي تنفرد به نخب ضيّقة لا تهمّها الحرّيات

إنّ فحص العلاقة الارتباطية بين متغيّرات العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي والتّنمية في البلاد العربية، يحيل إلى علاقة الدّولة بالمجتمع وبمشاكل السلطة التنفيذية ومؤسّساتها التّمثيلية في الإستجابة إلى أفق انتظار الفرد العربي.

تحتلّ الدّول العربية مجتمعة المرتبة الأولى عالميًا من ناحية عدم المساواة وتكافؤ الفرص. ممّا يُشكّل منطلقًا للأزمة ويجعل مجتمعاتها تعيش من الدّاخل فوارق اجتماعية واقتصادية غير مقبولة لا تُمكّن من إحداث طفرات تنموّية تُلحقها بالدّولة الصّاعدة. لأنّ آفة هذه الفوارق التي تعدّ مدخلًا لعدم تكافؤ الفرص تُعطّل مردودية العنصر البشري وتحرّضه على الاستقالة من المجتمع بحثًا عن مخارج ذاتية كيفما اتّفق، ممّا يفقده شعور الإنتماء إلى الوطن ويسلبه حسّ المواطنة.

لقد ذكر عالم الاقتصاد توماس بيكوتي أن نتائج آفة الفوارق الاجتماعية تكلفّ الاقتصاد القومي كخسارة أكثر من 4 في المئة النّاتج الدّاخلي. وكلّما تعمّقت المثبّطات في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص انزاح المجتمع عن سكّة التّنمية وأصبح قابلًا للانفجارات الدّاخلية واللاستقرار السياسي الذّي تغذّيه ارتفاع معدّلات البطالة.

تتحدّد العلاقة الارتباطية بين متغيرّات العدالة الاجتماعية والاستقرار السيّاسي والتّنمية في البلاد العربيّة، من خلال مستويين. الأول فوقي يرتبط بحرية الفكر والتعبير والتجمّع والصّحافة والعمل المشترك وحرّيّة اختيار الوظيفة، والثّاني تحتي له صلة بالتّوزيع العادل للثّورة واعتماد خيارات اقتصادية وسياسية في سياق دولة اجتماعية منفتحة تقطع مع نموذج الدّولة المُمَرْكَزة التي يطبعها الرّيع والانسياق إلى إملاءات الليبرالية المتوحّشة. غير أن هذه العلاقة الارتباطية في البلاد العربية يطبعها التّناقض والتفكّك نتيجة لاختيارات النّظام السيّاسي بوصفه مسؤولًا عن الحالة الاقتصادية والاجتماعية الذي يكون عليه المجتمع.

لتحقيق عدالة إنسانية عربية تقوم على إعطاء النّاس الفرص للمشاركة في القرار وفقًا لضوابط الديمقراطية التّشاركيّة

في تقرير للإسكوا هناك إشارة مركزية تؤكّد على أنّ جذر فشل العدالة الاجتماعية في البلاد العربية يبقى سياسيًا وثقافيًا. باعتبار عطالة التّنمية وفشل الاقتصاد يرتبطان جدليًا باحتكار الاقتصاد والقرار السياسي الذي تنفرد به نخب ضيّقة لا تهمّها الحرّيات والإنفاق على الفقر والتّوزيع العادل للثّروة.

إذن، يبقى غياب العدالة الاجتماعية في البلاد العربية مرتبطًا بغياب الدّولة الاجتماعية التي ينبغي أن تكون دولة مستنبطة من رحم ثقافة المجتمع العربي، غير دولة اجتماعية على الطريقة الغربية. بمعنى أن تكون دولة عربية إنسانية تنطلق من الإنسان العربي لتحقيق عدالة إنسانية تقوم على قيم الحوار وإعطاء النّاس الفرص للمشاركة في القرار وفقًا لضوابط الديمقراطية التّشاركيّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن