والحقيقة أنّ جانبًا مما جاء في بيان حركة "حماس" الذي انتقدت فيه "فتح" والسلطة كان منفصلًا عن الواقع، يقابله جانب آخر جاء في بيان "فتح" خرجت فيه عن حدود وقواعد أي خلاف ليصل إلى اتهام "حماس" بأنها هي من تسببت في إعادة احتلال إسرائيل لقطاع غزّة، وبـ"وقوع النكبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، خصوصًا في قطاع غزّة"، ومن ثم "لا يحق لها إملاء الأولويات الوطنية".
وأعربت "فتح" في بيانها عن "استغرابها واستهجانها من حديث حماس عن التفرد والانقسام"، وتساءلت هل "شاورت حماس القيادة الفلسطينية أو أي طرف وطني فلسطيني عندما اتخذت قرارها القيام بمغامرة السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، التي قادت إلى نكبة أكثر فداحة وقسوة من نكبة 1948؟".
والحقيقة أنّ تحميل "حماس" مسؤولية تدمير غزّة واحتلالها واعتبار عملية ٧ أكتوبر/تشرين الأول مغامرة أمر لا يمكن قبوله أو تصوّر صدوره من فصيل فلسطيني وطني بحجم "فتح". صحيح أنّ أدوات ووسائل المقاومة ليست واحدة وأنّ المقاومة الشعبية والمدنية كانت طريق بلدان كثيرة لتحقيق الاستقلال وزوال الاحتلال، وأنّ المقاومة المسلّحة كانت خيار تجارب أخرى لتحقيق الهدف نفسه.
هناك أزمة عميقة في أداء السلطة الفلسطينية لكنها الجهة الوحيدة التي يمكن أن يقبلها المجتمع الدولي
من الوارد الاختلاف مع عملية ٧ أكتوبر/تشرين الأول واعتبارها لم تكن الوسيلة الأمثل لمواجهة الاحتلال، إلا أنّ هذا لا يعني أنّ المسار السلمي والضغوط المدنية والشعبية التي سبق وقادتها "فتح" وأسفرت عن اتفاقات أوسلو قد نجحت في إيقاف الاستيطان وفتحت الطريق أمام بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، إنما ما حدث هو العكس تمامًا، أي أنّ إسرائيل قامت بتدمير "حلّ الدولتين" واعتقلت وهجّرت وقتلت آلاف النشطاء السلميين والمسلحين وأرسلت رسالة للشعب الفلسطيني تقول إنهم غير موجودين وليس لهم حقوق ولا أمل، وحوّلت الضفة الغربية وغزّة إلى سجون مقطعة الأوصال يحرسها جيش الاحتلال.
من هنا، وحين يقدم فصيل مقاوم على استخدام وسيلة مسلّحة في المقاومة وافترضنا أنها خطأ، فهل نقول له إنّ العيب فيك أم فيمن اضطرك إلى استخدام هذه الوسيلة "الخطأ"؟
لا يمكن أن نحاسب شعبًا أو فصيلًا مقاومًا على رد فعله - بافتراض أنه خاطئ - وننسى أو نتناسى أصل المشكلة متمثلة في جرائم الاحتلال.
أما بيان "حماس" فاتّهم "فتح" وتحديدًا السلطة باتهامات سياسية يمكن الاختلاف مع بعضها أو كلها، ولكنها لم تسقط في فخ الاتهامات المرسلة التي تخدم الاحتلال كما جاء في جزء من بيان "فتح".
فقد اتهمت "حماس" السلطة الفلسطينية بأنها تتخذ قرارات فردية وتنشغل بخطوات شكلية، كتشكيل حكومة جديدة دون توافق وطني، وهي أمور اعتبرتها تعمّق الانقسام، و"تدلل على عمق الأزمة لدى قيادة السلطة، وانفصالها عن الواقع، والفجوة الكبيرة بينها وبين شعبنا وهمومه وتطلّعاته".
وقد يكون جانب مما ذكرته "حماس" صحيح فهناك أزمة عميقة في أداء السلطة الفلسطينية، ولكنها تظل هي الجهة الوحيدة التي يمكن أن يقبلها المجتمع الدولي لكي يتفاوض معها رغم معارضة إسرائيل، وأنّ خطوة اختيار خبير مالي واقتصادي في موقع يسمى مجازًا "رئيس وزراء" أمر نظريًا جيد، حتى لو كان يجب أن يحمل صفة أخرى لأنه لا يوجد رئيس حكومة يحكم أو يدير في ظل سلطة احتلال.
الخلاف على أداء "فتح" والسلطة مشروع، والمطالبة بضرورة تجديدها وضخ دماء جديدة في قيادتها مطلوب، لكن لا يمكن إلغاؤها، أما "حماس" فيمكن الاختلاف معها، ونقد طريقة إداراتها لقطاع غزّة عقب سيطرتها عليه في ٢٠٠٧، بل وارد الاختلاف مع عملية "طوفان الأقصى"، أما اعتبارها هي المسؤولة عما جرى للشعب الفلسطيني فأمر غير مقبول ويجب عدم تكراره في ظل احتلال مستمر قبل ٧ أكتوبر/تشرين الأول وبعده.
يجب عدم تكرار المنطق الضيّق الذي حكم الصراع بين "فتح" و"حماس" في هذا التوقيت الحاسم في تاريخ القضية
تأثيرات هذا السجال ستكون شديدة الخطورة لأنه جاء في توقيت يختلف عما جرى في السنوات الماضية التي كان فيها الاحتلال يكتفي بإذكاء التراشق بالكلام أو السلاح أو الاعتقالات بين "فتح" و"حماس" ولم يكن قد بدأ حرب الإبادة التي يرتكبها حاليًا.
خطورة التراشق الحالي أيضًا أنه يتجاهل أنّ هناك نهاية للحرب وأنّ هناك يومًا تاليًا لها وأنّ "حماس" المستبعدة من أي تفاوض مباشر لوقفها أو أي حضور ولو سياسي في اليوم التالي، تحتاج إلى مظلة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الجديدة أكثر من أي وقت مضى.
يجب عدم تكرار المنطق الضيّق نفسه الذي حكم الصراع بين "فتح" و"حماس" في هذا التوقيت الحاسم في تاريخ القضية الفلسطينية، لأنه لا بد أن يكون هناك طرف فلسطيني واحد يفاوض على مستقبل غزّة، ويناضل بكل الطرق من أجل انتزاع "حلّ الدولتين" وهو نضال صعب، حتى لو كان الوضع الفلسطيني والعربي في أفضل حالاته فلن يكون من السهل أن يصلوا إلى "حلّ الدولتين" فما بالنا إذا كان الانقسام الفلسطيني حاضرًا والوهن العربي سائدًا.
(خاص "عروبة 22")