أولى المشروع الصهيوني بحكم طبيعته وتوقيت ظهوره في أوج الموجة الكولونيالية الاستيطانية، الاستيلاء على الأرض وطرد السكان الفلسطينيين أولوية قصوى، استلهامًا للتجربة الاستيطانية الاستعمارية، ولم يتورع في ذلك عن ارتكاب جرائم التطهير العرقي والمذابح بحق الشعب الفلسطيني خلال أعوام 1947، 1948، حيث قام بتنفيذ العديد من الخطط لطرد الفلسطينيين أشهرها الخطة (د) التي أفضت إلى طرد 800 ألف فلسطيني وإحراق وتدمير ما يفوق الخمسمائة قرية فلسطينية وأوصى قادة المشروع الاستيطاني الصهيوني رؤساء الوحدات العسكرية آنذاك المكلفة بتنفيذ هذه الخطة؛ بالتقيد بالعمليات المطلوبة من قتل وإحراق واتلاف وتدمير الممتلكات والإبقاء على منفذ وحيد للهروب، بل ووضع القنابل بين الأنقاض حتى لا يعود أصحابها إليها، وذلك تمهيدا للهجرة اليهودية واستيطان اليهود في هذه الأراضي.
ظل الهدف النهائي، إن للدولة أو للمشروع الصهيوني، يتمثل في السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي الفلسطينية وأقل عدد من الفلسطينيين. ويقف هذا الهدف وراء كافة محاولات التوسع الصهيوني في عام 1967 وما بعده، حيث ظهر الاستيطان وتكاثر المستوطنون حتى بلغوا ما يفوق 750 ألف مستوطن منهم 500 ألف في الضفة و250 ألفا في القدس الشرقية، وأصبحوا ممثلين في الحكومة اليمينية المتطرفة الحالية، والتي يمثل أعضاؤها النسخة الثانية من المشروع الصهيوني، أي النسخة اليمينية الدينية التي تتعامل مع الأسطورة الدينية اليهودية كهدف في حد ذاته وتطالب بضم الضفة الغربية واعتبارها جزءا من الدولة اليهودية.
الهاجس الديموجرافي والأرض لم يفارقا الأجندة الإسرائيلية والصهيونية في العدوان الآثم والبربري على غزة والمقاومة الفلسطينية؛ حيث إن التهجير القسري المرفوض مصريا وعربيا ودوليا حتى الآن، وإقامة شريط حدودي بعرض كم واحد وبطول 62 كم تحت غطاء الحاجز الأمني، تظل حتى الآن أهدافا قائمة وقابلة للتنفيذ رغم الرفض والمعارضة العربية والدولية. توارى هدف التهجير القسري مؤقتا، وتمركزت الأهداف حول استعادة قوة الردع الإسرائيلية في مواجهة الشعب الفلسطيني والدول العربية والشرق الأوسط بما فيه إيران؛ حتى تستعيد إسرائيل مصداقيتها لدى الراعي الأمريكي والرعاة الغربيين، باعتبارها ما زالت قادرة على تأمين وظيفتها في حماية المصالح الغربية الاستراتيجية، وتسويد صفحة المقاومة باعتبارها خيارا خطيرا لا يجلب إلا الدمار والقتل والتخريب، وذلك بهدف تقويض الحاضنة الشعبية لحركات المقاومة وان تكون محصلة هذا الخيار معادلة للصفر.
يتمثل الهدف الديموجرافي للعدوان على غزة والذي يدخل شهره السادس حتى الآن، في القيام بعملية هندسة ديموجرافية في الهرم السكانى لقطاع غزة، والمعروف بقاعدته الفتية الشابة، والتي يقدرها الخبراء بنسبة 70% من إجمالي عدد سكان قطاع غزة البالغ 2.2 مليون نسمة، ولكي يتحقق هذا الهدف يستهدف العدوان الغاشم قتل النساء والأطفال، فالنساء هم مصدر الخصوبة والنمو السكاني والإنجاب أما الأطفال فهم مقاومو الغد، 25 ألفا عدد القتلى من النساء والأطفال وفق وزير الدفاع الأمريكي، فضلا عن 7 آلاف مفقود تحت الأنقاض وما يفوق السبعين ألفا من المصابين بينهم معاقون إعاقات دائمة، يتوقع أن تبلغ نسبة الإعاقة من عدد المصابين نحو 30% يضافون إلى نحو 60 ألفا من المعاقين منذ ما قبل هذا العدوان من جراء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة منذ عام 2008، وحتى الشهر الرابع من العدوان مثل عدد الشهداء والضحايا والمفقودين ما يقرب من 1.7 من إجمالي سكان قطاع غزة البالغ نحو 2.2 مليون نسمة وهي نسبة كبيرة منظورًا إليها من زاوية عدد السكان ومدة العدوان، وكذلك مقارنة بحرب أوكرانيا المستمرة منذ عامين والتي قتل فيها 70 ألف أوكراني يمثلون نسبة 0.07% من إجمالي سكان أوكرانيا وبإضافة عدد الجرحى والمصابين إلى عدد الضحايا والمفقودين فإن النسبة تصل إلى 5% من إجمالي السكان.
وبالإضافة إلى ذلك، ثمة التدمير المتعمد لكافة المرافق الطبية والصحية والتعليمية والأثرية والجامعات ودور العبادة وهدم المنازل وتجريف التربة ومخلفات القذائف والصواريخ وتلوث البيئة وتعريض ما يقرب من 1.9 مليون فلسطيني للنزوح المتكرر عدة مرات، دون مراكز إيواء لائقة أو منازل سابقة التجهيز، وفقدان الأمن وغياب أفق الحل والمستقبل، والهدف الكامن والظاهر وراء كل ذلك جعل القطاع منطقة طاردة لأهله، وغير قابل للعيش والحياة لأنه يفقد المقومات الضرورية والمستلزمات التى لا غنى عنها.
وحتى بعد نهاية هذا العدوان -إن كان له نهاية- فثمة الآثار غير المباشرة للحرب وتأثيرها على التركيبة السكانية حيث من الممكن أن تدفع هذه الآثار؛ إلى تآكل فرص العمل والدخل، انعدام الأمان، فقدان المنازل والممتلكات وعزوف الشباب عن الزواج والإنجاب بسبب تآكل وفقدان القدرة المالية على الإنفاق وتأمين مستقبل أسرة، من المحتمل أن تدفع هذه الآثار إلى الهجرة بعد نهاية الحرب وسوف تكون هذه الهجرة ظاهريا طوعية، ولكنها في الواقع قسرية أيضا بسبب ما خلفه العدوان من آثار تطول كل الفئات بدرجات متفاوتة وبالذات فئة الشباب دون سن الثلاثين وهي الفئة القادرة والمؤهلة للهجرة وبدء حياة جديدة في بلدان أخرى كما أنها الفئة التي بمقدورها تحمل إعالة بقية أسرها الذين قيض لهم الحياة في غزة. تصب هذه الآثار إن المباشرة أو غير المباشرة لهذا العدوان الإجرامي في تخفيض منسوب المقاومة وخفض التهديد الأمني المزعوم لإسرائيل على مدار العقدين المقبلين.
ويبقى في النهاية التذكير الضروري والدائم بأن ليس كل ما تفكر فيه إسرائيل وحلفاؤها، قابلا للنجاح والتنفيذ، فثمة من ناحية الإرادة الإسرائيلية والتي تصطدم بإرادة البقاء الفلسطينية والتمسك بالأرض وتواصل أجيال المقاومة، والتي قد تشهد مقاومات أكثر بأسا وأشد إيلاما، ولو كانت إسرائيل تنجح فيما تفكر فيه وتنفذه، لما كانت في هذا الموقف الراهن، عالقة في غزة لا تنتصر ولا تكسب الحرب ولا تحقق أهدافها في انتظار نجدة العالم الغربي بمساعداته الغبية والخبيثة، وإن غدا لناظره قريب ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
("الأهرام") المصرية