ومن حيث التأريخ، فقد شهدت الساحة السياسية السودانية خلافات متعددة، بين شركاء العمل السياسي المدني، وبين القوى المدنية والمكون العسكري، وداخل المكون العسكري نفسه بين الشريكين الأساسيين القوات المسلحة و"الدعم السريع".
توثيق هذه الخلافات جاء في ثنايا المبادرة التي تقدّم بها الدكتور عبد الله حمدوك رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في المبادرة المعروفة باسم "مبادرة رئيس الوزراء" والتي قدّمها للمجتمع السوداني في يونيو/حزيران 2021، في محاولة لإنقاذ الفترة الانتقالية من الخلافات التي تهدد بعدم اكتمالها.
الخلافات بين الشريكين بدأت في الظهور في اليوم التالي للانقلاب على الفترة الانتقالية
لم تتقدّم مبادرة رئيس الوزراء كثيرًا بشكل يؤدي لنجاحها، لكنها نجحت فيما يبدو في توحيد جناحَيّ المكوّن العسكري، اللذين توصلا بطريقة ما إلى أنّ كل مشاكلهما ومشاكل البلاد سببها الشريك المدني. ولهذا نفذا الانقلاب العسكري على الفترة الانتقالية، والأجهزة التنفيذية لها في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021.
إفادات الفريق عبد الرحيم دقلو، شقيق حميدتي ونائبه، تفيد بأنّ الخلافات بين الشريكين بدأت في الظهور في اليوم التالي للانقلاب، عندما ظهرت ملامح تنسيق بين الفريق البرهان ومجموعات من المنتمين للنظام السابق، وهم ألد أعداء حميدتي. وقد كانت هذه الخلافات تدور داخل الغرف المغلقة، لكن انعكاسات هذه الخلافات كانت واضحة للعيان، فقد تسببت الخلافات في عدم قدرة الشريكين على إدارة البلاد بعد الانقلاب، بل وفشلا في تشكيل حكومة.
الجهود الوطنية
تفجّر الخلاف الرسمي بشكل واضح وظهر أنه قد يقود لمواجهات عنيفة في اليوم الختامي للورشة النهائية المقررة وفقًا لبرنامج ورش الاتفاق الإطاري حول الإصلاح الأمني والعسكري. وكان مقررًا أن تختتم الورشة يوم 28 مارس/آذار 2023، لكن قبل ساعات من موعد الجلسة الختامية انسحب ممثلو القوات المسلحة ومعهم ممثلو قوات الشرطة وجهاز المخابرات العامة. وحدث الانسحاب نتيجة خلافات بين ممثلي الجيش وممثلي قوات "الدعم السريع" حول الجوانب الفنية وجدولة عملية دمج قوات "الدعم السريع" في القوات المسلحة. ومنذ ذلك اليوم تصاعدت التصريحات الإعلامية الحادة بين الطرفين.
مساء ذلك اليوم بدأت مجهودات الوساطة الوطنية التي بدأتها القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري، حيث سارعت للاجتماع مع الطرفين، الفريق البرهان والفريق حميدتي وبعض ممثليهم. واستمر التلاسن أيام 11 و12 أبريل/نيسان، ووصلت قوات "الدعم السريع" إلى مطار مروي واحتلته بحجة وجود قوات مصرية في المطار وأنّ ذلك يشكل مصدر تهديد، ومن هناك بدأت المعركة شرارتها الأولى حتى وصلت لمرحلة الحرب الشاملة في يوم السبت 15 أبريل/نيسان.
خلال الفترة من يوم 28 مارس/آذار وحتى فجر يوم 15 أبريل/نيسان، كانت وساطة قوى الحرية والتغيير تلتقي بالأطراف بشكل يومي، وحاولت تهدئة الأوضاع في مروي قبل انفجارها. في الوقت نفسه تدخلت مجموعة الكتلة الديمقراطية التي تضم الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا بقيادة جبريل إبراهيم ومني آركو مناوي وبذلت محاولة للوساطة موازية لوساطة الحرية والتغيير. وبحسب شهادات الطرفين، فقد تقاطعت خطواتهما مرات كثيرة وهم يسارعون للاجتماع مع الطرفين.
مساء 14 أبريل/نيسان استمرت الاجتماعات حتى فجر اليوم التالي، تم الاتفاق على تهدئة الأوضاع في مطار مروي بسحب الطائرات المصرية مقابل سحب قوات "الدعم السريع"، وأن يجتمع ممثلو الطرفين مع لجنة وساطة لمناقشة نقاط الخلاف الأخرى، ووضع جدول زمني لذلك، وتم تحديد منتصف نهار يوم 15 أبريل/نيسان موعدًا لذلك.
صباح يوم السبت 15 أبريل/نيسان، بدأت المواجهة الشاملة بالمدينة الرياضية ثم مطار الخرطوم والقيادة العامة للقوات المسلحة، ولم تعد الوساطة الوطنية قادرة عل فعل شيء. اتجهت الجهود الوطنية بعد ذلك لتكون جبهة منادية بوقف الحرب، وقُدّمت كثير من المبادرات في هذا الاتجاه، كانت نتيجتها عقد لقاء تحضيري في أديس أبابا في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أعلن بعدها عن تكوين "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية – تقدم" برئاسة رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك. وعملت الجبهة على وضع خارطة طريق لوقف الحرب قدّمتها للأطراف المختلفة، لكن لم تجد استجابة من جانب الطرف الحكومي الذي صار يصنّف كل دعوة لوقف الحرب بأنها تنكّر للدور الوطني لمؤسسة القوات المسلحة ووقوف بجانب "الدعم السريع".
الجهود الإقليمية والدولية
كانت أول مبادرة من خارج السودان لوقف الحرب هي تلك التي جاءت من المملكة العربية السعودية بشراكة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ودعم من المجموعات التي كانت تعمل قبل الحرب، ومنها المجموعة الرباعية المكوّنة من أمريكا وبريطانيا، السعودية، الإمارات، والآلية الثلاثية يونيتامس، الاتحاد الأفريقي، إيقاد.
منبر جدة
وجهت الدولتان الدعوة لطرفي القتال للقاء في مدينة جدة السعودية، وفعلًا بدأت أعمال منبر جدة يوم السبت 6 مايو/أيار بحضور ممثلي الطرفين والوسطاء، كان التركيز على الوصول لهدنة إنسانية، وفعلًا تم الاتفاق على اتفاق التزام بحماية المدنيين في 11 مايو/أيار وعلى عدد من الهدن توقف فيها القتال جزئيًا، لكن لم يكن للمدنيين أي استفادة منها، فقد استمرت الانتهاكات وعمليات النهب والسرقة. وتم تعليق التفاوض في الأول من يونيو/حزيران لعدم التوصل لنقاط اتفاق وانسحاب وفد الجيش السوداني، وأصدر الوسطاء بيانًا انتقدوا فيه الطرفين واتهموهما بعدم الجدية.
في منتصف يوليو/تموز تم استئناف التفاوض مرة أخرى وتم تقديم عدد من المقترحات، وطلب الجيش انسحاب "الدعم السريع" من الأعيان المدنية والمقار الحكومية كشرط لوقف إطلاق النار، وتعثّرت المفاوضات مرّة أخرى وتم تعليقها.
كل الأطراف تقول إنّ منبر جدة المكان المناسب للتفاوض الجدي لحل الأزمة
في يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول تم استئناف الجولة الثالثة من التفاوض بحضور ممثل للاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد كمراقب، وقد وقع الطرفان في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني على بنود خاصة بإيصال المساعدات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة وعلى رأسها القبض على رموز النظام السابق الذين كانوا في السجون حتى بداية الحرب، بطلب من "الدعم السريع"، وتم تحديد مدى زمني، لكن لم يتحقق هذا الأمر، وللمرة الثالثة يتم تعليق التفاوض بعد تعذر الوصول لاتفاق إطلاق النار بين الطرفين. فقد اشترط وفد الجيش خروج قوات "الدعم السريع" من الأعيان المدنية ومراكز الخدمات وكل المناطق المدنية، ولم يوافق وفد "الدعم السريع" على الخروج من المناطق التي يحتلها واشترط احتفاظه بنقاط الارتكاز والتفتيش، وفشلت الوساطة في إقناع الطرفين بالبدء بوقف إطلاق النار ومرحلة الخطوات الأخرى.
وحاليًا فإنّ منبر جدة متوقف، رغم أنّ كل الأطراف تقول إنه المكان المناسب للتفاوض الجدي لحل الأزمة.
مبادرة إيقاد
تقدمت منظمة الإيقاد (الهيئة الحكومية للتنمية) بمبادرة بعد بداية الحرب مباشرة دعت لجعل الخرطوم منزوعة السلاح، ووقف غير مشروط للأعمال العدائية وبدء عملية سياسية شاملة. وتتضمن الخطة نشر قوات أفريقية لحراسة المؤسسات الاستراتيجية في العاصمة على أن تقوم قوات الشرطة والأمن بتأمين المرافق العامة. وقد أعلن مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي تأييده لخطة الإيقاد، فيما رفضتها الحكومة السودانية.
وقد عقد رؤساء دول الإيقاد اجتماع قمة خاصة بالأوضاع في السودان في شهر يونيو/حزيران الماضي، وترأس القمة الفريق مالك عقار الذي عيّنه البرهان نائبًا لرئيس مجلس السيادة، باعتبار أنّ السودان لا يزال رئيسًا للإيقاد منذ عهد رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك. وأقر الاجتماع الخطة المسبقة للإيقاد، بجانب الدعوة لتنظيم لقاء مباشر بين الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو "حميدتي" تحت رعاية الإيقاد.
وقررت القمة إسناد مهمة تنفيذ خطتها للجنة الرباعية يرأسها الرئيس الكيني وليام روتو وعضوية رئيس جنوب السودان سلفا كير، ورئيس جيبوتي إسماعيل عمر قيلي، ورئيس وزراء أثيوبيا آبي أحمد. وفور اختتام القمة وصدور بيان ختامي أعلنت حكومة البرهان رفضها للمقررات التي نص عليها البيان وأي خطة لنشر قوات أفريقية، كما أعلنت رفضها لرئاسة الرئيس الكيني وليام روتو للجنة الرباعية واتهمته بعدم الحياد وبأن له علاقات تجارية ومصالح مع قائد "الدعم السريع".
وتنفيذًا لمقررات القمة، وبالتنسيق مع الاتحاد الأفريقي عقد اجتماع القمة الرباعية للجنة السودان بأديس ابابا في 10 يوليو/تموز 2023، شارك فيها الرئيس الكيني وليام روتو، ورئيس وزراء أثيوبيا أبي أحمد ووزير خارجية جيبوتي والمبعوث الشخصي لرئيس جنوب السودان. كما حضر الاجتماع مفوض الاتحاد الأفريقي للشؤون السياسية والسلم والأمن، وممثلون للأمم المتحدة والاتحاد الافريقي والولايات المتحدة وبريطانيا ومصر والسعودية والامارات، وقدّمت الدعوة لطرفَيّ النزاع للمشاركة في الاجتماع.
قاطع وفد حكومة السودان الاجتماعات لاعتراضه المسبق على رئاسة وليام روتو للجنة الرباعية، وشارك فيها وفد "الدعم السريع" بقيادة يوسف عزت، ووفد من القوى السياسية بقيادات من قوى الحرية والتغيير. عبّرت القمة عن قلقها من تصاعد القتال وطلبت الوقف الفوري لإطلاق النار بدون شروط، وكررت دعوة قائدَيّ الطرفين لاجتماع مباشر بينهما، كما دعت قمة القوة الاحتياطية لشرق أفريقيا (EASF) الانعقاد من أجل النظر في إمكانية نشر القوة الاحتياطية لحماية المدنيين وضمان وصول المساعدات الإنسانية، ودعت للتنسيق بين المبادرات والجهود المختلفة لوقف الحرب في السودان. وقد كررت الحكومة السودانية رفضها للاجتماع ومقرراته.
ما أن عاد البرهان للخرطوم حتى أصدرت حكومته بيانًا تنكرت فيه لكل ما تم الاتفاق عليه في قمة جيبوتي
بعد شهور من الهجوم المغلظ على كينيا وأثيوبيا ومنظمة الإيقاد، قام رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان بزيارة كل من كينيا وأثيوبيا وجيبوتي، وأعلن أمله في أن تلعب هذه الدول ومنظمة الإيقاد دورًا إيجابيًا لإنهاء النزاع في السودان.
وعقد البرهان اجتماعًا مع السكرتير التنفيذي للإيقاد ووركنا قبيهو، أعلن بعده أنه تم الاتفاق لعقد قمة عاجلة لرؤساء الإيقاد في جيبوتي في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، وفعلًا انعقدت القمة بحضور البرهان، وصدر عنها بيان يقول إنّ البرهان وافق عل لقاء حميدتي بجيبوتي. وما أن عاد الرجل للخرطوم حتى أصدرت حكومته بيانًا تنكرت فيه لكل ما تم الاتفاق عليه.
(خاص "عروبة 22")