وجهات نظر

قولٌ في "الاتّحاد" ونماذجه

أمام مشروع الاتّحـاد العربيّ المستقبليّ، الذي ندافع عن فكـرته، نموذجان للبناء على أحدهما أو على كـليهما: نموذج "الاتّحاد الأوروبـيّ"، ونموذج الولايات المتّحـدة الأمريكـيّة. بين النّموذجيْن (الأوروبيّ والأمريكيّ) فوارق عـدّة؛ لا في الهياكل السّياسيّة والدّستوريّـة، فحسب، بل حتى - وهذا هـو الأهـمّ - على صعيد تكوين البـنية الاجتـماعـيّة للنّموذجين الاتّحاديّـين.

قولٌ في

وفي العلاقة بهما، يتبدّى لنا ما يشبه المفارقة: النّموذج الاتّحاديّ الأوروبيّ أقرب إلينا من حيث الإمكان التّاريخيّ والسّياسيّ، والنّموذج الاتّحاديّ الأمريكيّ أقرب إلينا من حيث التّكوين الاجتماعيّ. وعليه، لن يكون الاتّحاد العربيّ اتّحادَ أمـمٍ وقوميّات مختلفة، كما هي حال الاتّحاد الأوروبيّ، لأنّ العربَ أمّـةٌ واحدة في دول متعدّدة؛ كما أنّه لن يكون، في الوقت عينه، ناسجًا على المنوال الأمريكيّ لأنّ الهندسة السّياسيّـة والدّستوريّـة الفـيدراليّة للنّـظام الاتّحاديّ الأمريكيّ - وإن كانت تـتعلّق بأمّـةٍ واحدة - قـد لا تطابق ظروف الوطن العربيّ قبل أن يتـشبّع بتجربةٍ من الاتّحاد طويلة بين دوله (من النّمط الأوروبيّ) تؤهّـله لأن يصبح جاهزًا لعملـيّة توحيد أعلى تحاكي ما هـو قـائم في المثال الأمريكيّ.

يفرض الاتّحاد على الدول العربية ترْك كلّ واحدةٍ منها حصّةً صغيرةً من سيادتها لتكوين سيادة جماعيّة مشتركة 

إذا تحدّثـنا بلغة التّـمرحُـل (مَـرْحَـلةُ الأهـداف) - وهي لغة الواقعيّـة السّياسيّـة بامتياز- قلنا إنّ النّموذج الأوروبـيّ يناسبنا سياسيًا، في هـذه اللّحـظة من التّـطـوُّر التّاريخيّ، ويُـشْبع حاجتنا المرحليّـة إلى الوحـدة من غيرِ كبيرِ مشكلات، بل يوفّـر إطارًا تاريخيًا لمزيدٍ من تمتين العُـرى والرّوابط، الاقتصاديّـة والسّياسيّة والاجتماعيّـة والنّـفسيّـة، بين مكوّنـات الاتّحاد تهيئـةً وإنضاجًا لشروط صيرورةٍ اتّحاديّـة أبعد مـدًى. وإذا كان النّموذج الفيدراليّ الأمريكيّ هـو المُـبْـتغَـى النّـهائيّ الأكبر، بحسبانه اتّحـادَ أمّـةٍ واحدة، فإنّ بلوغ عتبته يقتضي إرادةَ الوحدةِ، القيامَ بتمريـنٍ اتّحاديّ مرحليّ/ طويـل الأمـد على المنوال الأوروبيّ القائم اليوم...

سيكون علينا، إذن، أن نتغاضى عن الحقيقة الاجتماعيّـة لِـ"الاتّحاد الأوروبيّ" (تَـكَـوُّنُه من أممٍ وقوميّـات عـدّة) مكتـفين باستحضار حقيقـته السّياسيّة (تَكَـوُّنُـه من دولٍ عـدّة) ومحاولين، في الوقت عينِه، البناءَ عليها. إنّ أوّل ما سيترتّـب على نموذجٍ اتّـحاديّ يحتـذي النّموذجَ الأوروبيّ هـو قيامُه على قاعدة التّسليم بحقيقة تعدُّد الدّول هذا، وبسيادة كـلّ دولةٍ منها في حيّزها الإقليميّ الخاصّ وعدم مساسِ الشّراكـةِ الاتّحاديّـة بتلك السّيادة. وقد لا تكون هناك مشكلةٌ على هذا الصّعيد، بالنّظر إلى أنّ الدّول العربيّة اختبرت هـذه "الوصفة" لِما يقارب الثّمانين عامًا (منذ انضـوت في إطار جامعتها الإقليميّة)، فظلّت محافظةً على سياداتها الوطنيّـة في عـزّ انشدادها إلى بعضها بخيوط التّعاون والتّنسيق أو ما دُعِـي باسم "العـمل العربيّ المشترك". لكنّ الجديدَ الذي يفرضه الاتّحادُ عليها - على مثال ما فرضـه على الأوروبـيّـين - هـو الحاجةُ الماسّة إلى تـرْكِ كلّ واحدةٍ منها حصّـةً صغيرةً من سيادتها لتكوين سيادة جماعيّـة مشتركة لكي يكون الاتّحـادُ اتّحادًا حقًّا وشخصيّـةً معنويّـةً واحدة لها صوتُها واعتبارُها في منظومة العلاقات الدّوليّة. ولعمري إنّ هذا هـو التّحـدّي الأكبر الذي على أيِّ مشروع عربيّ للوحدة، في المستـقبل، أن يواجهـه بنجـاح.

رأسمال جزيل القيمة يملكه العرب ولا يملكه الأوروبيّون في علاقة بعضِهم ببعض هـو رأسمال اللّسان

من النّافـل القول إنّ مثل هـذا الاتّحاد بين البلدان العربيّـة سيكون شاقًا ويتطلّب الجَـهْـد المضاعَـف، لأنّ خبرة العمل الوحدويّ ضعيفة بين الكيانات العربيّـة ولا تُـقاس بما كانتْـهُ نظيرتُها بين بلدان أوروبا، منذ خمسينـيّـات القرن الماضي، ولكنّ رأسمالًا جزيلَ القيمة يملكه العرب ولا يملكه الأوروبيّـون في علاقة بعضِهم ببعض هـو رأسمال اللّسان؛ أعني وحـدة اللّغة التي توفّـر عليهم الكثير في البرامج والتّعامـلات. وهذا الرّأسمال من الموارد التّاريخيّة الكبرى التي يَـحْسُن بنا أن نعرف كيف نستـثمرها كما قـلنا في مقـالٍ سابق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن