بلغت قيمة صفقة رأس الحكمة 24 مليار دولار بجانب تحويل 11 مليارًا من ديون الإمارات على مصر من الدولار للجنيه وذلك لإقامة مشروع سياحي ضخم مساحته تقدر بـ170 كلم مربع في أفضل بقاع الساحل الشمالي المصري مع حصول مصر على ٪35 من الأرباح.
وقد أثارت الصفقة نقاشًا يتراوح بين الترحيب بها أو القلق منها لأسباب عدة، كما أعادت الجدل القديم في مصر بشأن بيع أراضي الدولة سواء للمستثمرين المحليين أو الأجانب.
العالم الآن يعيش عصرًا أحد ركائزه الاستثمار الأجنبي حتى لدول يحكمها حزب شيوعي مثل الصين وفيتنام
والواقع أنّ المخاوف من أن يؤدي شراء الأجانب للأراضي إلى نفوذ سياسي خارجي أو أنه بمثابة تفريط في أصول الوطن، لها جذور تاريخية مرتبطة بالاستعمار في المنطقة العربية والعالم الثالث برمته، حيث كان شراء الأجانب للأراضي ذريعة لدخول الاستعمار، كما أنّ الملّاك الأجانب عادة كانوا بمثابة أعوان للمستعمر وأكثر المستفيدين من سياسته.
ولكن من حيث المبدأ الأمر مختلف في الوقت الحالي، فالعالم الآن يعيش عصرًا أحد ركائزه الاستثمار الأجنبي حتى لدول يحكمها حزب شيوعي مثل الصين وفيتنام، كما أنّ مصر على كل مشكلاتها البيروقراطية والسياسية، دولة مركزية قوية، والحساسية الوطنية متغلغلة في تركيبتها المؤسسية والشعبية، كما أنّ عودة الاستثمارات الخليجية من الخارج للاستثمار في الدول العربية كان مطلبًا دائمًا للنخب والمثقفين العرب، وكان هناك انتقادات في السابق لشراء المستثمرين الخليجيين لأصول قائمة بدلًا من بناء مشروعات جديدة.
كما تجدر الملاحظة أنّ أقوى دول العالم وأكثرها نفوذًا وحرصًا على السيادة هي ذاتها أكبر دول العالم تلقيًا للاستثمار، فبريطانيا على سبيل المثال التي ما زالت تحتفظ بلقب عظمى شجعت الأثرياء العرب والروس، على شراء العقارات في قلب لندن، وعندما وقعت الأزمة الروسية - الأوكرانية تبيّن أنّ هذه الاستثمارات نقطة قوة لصاحب الأرض وليس العكس.
بالطبع يظل الأمر الأكثر للجدل في هذه الصفقة هو ضخامة مساحة المشروع، إضافة لغياب المعلومات عن تفاصيلها.
كما تثير الصفقة تساؤلات سياسية في ضوء الاختلافات في العديد من الملفات بين مصر والإمارات خاصة السودان وإثيوبيا والصومال، ولكن الملاحظ أنّ البلدين حافظا على علاقة وتنسيق وثيقين رغم أنّ هذه الاختلافات وبالتحديد تلك التي تتعلق بالعلاقة مع إثيوبيا تعود لسنوات.
وفي هذا الصدد، قالت ميريت مبروك، زميلة بارزة في معهد الشرق الأوسط ومقره واشنطن لوكالة بلومبرغ الأمريكية: "بالنسبة لمصر، التي تحافظ على خط دبلوماسي مستقل، فإنّ المساعدات المالية أو الاستثمار لا تترجم تلقائيّا إلى نفوذ سياسي أو دبلوماسي أو مرونة".
على الجانب السلبي، فإنّ مثل هذه الاستثمارات الأجنبية تعني أنّ المستثمر سيعمل على الحصول على أرباحه بالعملة الأجنبية خلال السنوات القادمة، وهو ما قد يمثل ضغطًا إضافيًا على الدولار في مصر، إلا إذا كان هذا المشروع موجهًا بالأساس لجذب السياحة الخارجية، ولا ينضم لقائمة مشروعات الساحل الشمالي الموجهة للسياحة المحلية التي تمثل في كثير من الأحيان عبئًا على الاقتصاد، لأنها لا تقدّم قيمة مضافة.
هناك حاجة لجعل السياحة قاطرة للتنمية الشاملة بما في ذلك الزراعة والصناعة
ومن الأهمية بمكان أن يكون هذا المشروع في إطار منظور شامل لجعل منطقة الساحل الشمالي منطقة جذب للسياحة الخارجية خاصة في مدينة العلمين الجديدة، كما أنّ هناك حاجة لجعل السياحة في هذه المنطقة قاطرة للتنمية الشاملة، بما في ذلك الزراعة والصناعة، حيث يمكن تطوير مصادر للري سواء عبر جلب المياه من وادي النيل، أو تحلية مياه البحر مع تحميل المشروعات السياحية جزءًا أكبر من التكلفة على أن يوجه جزءًا من هذه المياه المدعومة بأموال السياحة للاستثمار الزراعي بهذه المنطقة التي يتناسب مناخها تمامًا مع زراعة القمح والعديد من الفواكه.
كما أنّ هذه المنطقة بما فيها رأس الحكمة لديها بفضل موقعها قابلية للاستثمار في مجال النقل والترانزيت الجوي والبحري، والإمارات لديها خبرة كبيرة في هذا المجال.
من المهم أن تصبح رأس الحكمة دبي مصرية على البحر المتوسط تقدّم قيمة مضافة للاقتصاد وليس مجرد قرية سياحية جديدة عملاقة تبتلع مدخرات المصريين كما حدث في تجربة الساحل خلال العقود الماضية، ومن الواضح من التصريحات وحجم المشروع أنّ التوجه سيكون بالفعل للتركيز على السياحة الأجنبية.
على صعيد الاقتصاد الكلي، فإنّ هذه الصفقة ساهمت في إفساح المجال لاتفاقات مع صندوق النقد الدولي، والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي بقيمة إجمالية تُقدّر بنحو 20 مليار دولار، وفقًا للتصريحات المصرية الرسمية، تضاف إلى 35 مليار دولار، قيمة صفقة رأس الحكمة، أي أننا أمام تدفق نقدي بقيمة تقدر بنحو 55 مليار دولار (على مدار بضعة سنوات) وهو أكبر تدفق نقدي في تاريخ مصر، وقد يضاف إليه صفقات مماثلة وإن كانت أقل حجمًا مع دول خليجية أخرى، إضافة للاستثمارات الإماراتية المتوقعة في رأس الحكمة.
هذا التدفق النقدي الضخم، يلزم بضرورة الاستفادة من دروس المرحلة الماضية، خاصة أنّ مصر مرّت بتجربة تعويم قاسية ولكن ناجحة في عام 2016، ولكن أتبعها رفع لقيمة الجنيه من 18.5 إلى 15.5 للدولار، مع الاحتفاظ بسعر فائدة مرتفع، الأمر الذي جعل البلاد قبلة لمستثمري الأموال الساخنة الذين حققوا أرباحًا طائلة من الفائدة المرتفعة ومن زيادة قيمة الجنيه، لدرجة أنّ بعض مستثمري الأموال الساخنة حققوا أرباحًا تُقدّر بـ12% خلال أسبوعين في عام 2017، حسب الخبير الاقتصادي المصري هاني توفيق، الذي قال إنهم يحتاجون ست سنوات لتحقيق ذلك في بلادهم، وقد جرى ضخ جزء من هذه القروض قصيرة الأجل في مشروعات للبنية الأساسية طويلة الأجل ولا تدر عملة أجنبية.
وفور وقوع الأزمة الأوكرانية، تخلّص هؤلاء المضاربون من الجنيه، تاركين إياه يتداعى، وهو خطأ اعترف به وزير المالية المصري محمد معيط.
وقد عاد مستثمرو الأموال الساخنة للمراهنة على الاقتصاد المصري بقوة بفضل التفاؤل الكبير من التمويلات التي جرى الاتفاق عليها، وهم سيحاولون الاستفادة من الارتفاع الكبير لسعر الفائدة لجني الأرباح وقد يعاودون الانسحاب فور ظهور أي مؤشرات لتقلصها، كما أنّ جزءًا كبيرًا من اتفاقات التمويلات الدولية هي قروض مستحقة السداد.
تعزيز الإنتاج المحلي يجب أن يصبح الفريضة الأولى للاقتصاد المصري خلال السنوات القادمة
ولذا تحتاج القاهرة، في خضم الحماسة الناتجة من صفقة رأس الحكمة والرغبة في تخفيض الضغوط التضخمية، إلى إيلاء اهتمام خاص للصناعة والزراعة، والمنتجين المحليين، الذين سيتضررون من ارتفاع الفائدة، كما سيتضرر المصدّرون على وجه الخصوص من صعود الجنيه الكبير الحالي، ولذا يجب أن يكون هناك مرونة في التعامل مع سعر الفائدة وتخفيضها فور استقرار سعر صرف الجنيه عند رقم يكون ملائمًا لهدف تخفيض التضخم وتعزيز الصادرات المصرية بالوقت ذاته، خاصة أنّ استمرار الفائدة المرتفعة يزيد عبء الدين.
وبصفة عامة، فبينما يبشر مشروع رأس الحكمة بطفرة في مجال الخدمات والسياحة في مصر، فإنه لا يمكن إلقاء كل الثقل الاقتصادي لبلد ضخم مثل مصر على السياحة التي هي حساسة بطبيعتها أمام الأزمات، كما أنّ جزءًا من قدرة أي دولة على محاربة التضخم يكون عبر تعزيز الإنتاج المحلي، الذي يجب أن يصبح الفريضة الأولى للاقتصاد المصري خلال السنوات القادمة.
(خاص "عروبة 22")