كان هذا النهج هو الذي ميّز سلوك غالبية الحكام العرب تجاه الأزمة. وجرت الإشارة أيضًا إلى الدور الذي تسبّب فيه هذا النهج في تحقيق الهدف الرئيس الذي يصب في صالح استراتيجية واشنطن في منع امتداد الحرب فلسطينيًا وإقليميًا. إذ يعرف الأمريكيون أنّ إسرائيل غير قادرة على رد صفعة ٧ أكتوبر/تشرين الأول إذا اشتعلت كل جبهات محور المقاومة المحيطة بها. مع التركيز على دور السلطة الفلسطينية المؤذي في إجهاض انتفاضة الضفة والقدس التي كانت لتصلح نسبيًا الخلل في توازن القوى الذي رجح الدعم الأمريكي المطلق كفته لصالح إسرائيل.
في المقابل فإنّ النظم العربية فشلت في إنجاز الهدفين الآخرين اللذين يصبان في صالح غزّة واللذين صاغهما مبكرًا المجتمع الدولي والقمة العربية بخصوص الأزمة، وهما وقف الحرب والسماح للغذاء والدواء بالوصول لشعب غزّة.
حسابات السنوار ورفاقه كانت صحيحة لو أنّ وحدات النظام العربي والإقليمي عملوا طبقًا لمصالحهم
بل أنّ الحقيقة العارية هي أنّ هذه النظم ساعدت عمليًا في تنفيذ خطة بايدن لمنع وقف الحرب ومنع دخول المساعدات (التجويع القسري) رغم مرور نصف عام كامل على الحرب ووصول ما يزيد عن مليون فلسطيني إلى حالة الموت جوعًا.
دعنا نصيغ المعادلة على النحو التالي؛ تآمرت النظم العربية على إفشال كل حسابات المقاومة لما بعد هجومها المظفر في السابع من أكتوبر/تشرين الأول من ناحية، وساعدت على إنجاح كل حسابات واشنطن وتل أبيب في الرد على هذا الهجوم من ناحية أخرى.
هذه هي الحقيقة العارية التي ستبقى في التاريخ وستؤكدها يومًا الوثائق الأمريكية والإسرائيلية بعد مرور الوقت كما حدث عندما تأكدت خيانات نظم وعروش وقيادات عربية في حروب ٤٨ و٦٧ و٧٣ و ٨٢ و ٢٠٠٦.
لم يكن هناك خطأ في حسابات المقاومة وهي تشن هجومها خاصة وأنها بنيت على أساس تراكم خبرة الصراع عامة والصراع مع غزّة خاصة وتحديدًا منذ استيلاء "حماس" على الحكم في القطاع قبل ١٧ عامًا كاملة. ففي جولات الصراع الخمس السابقة كانت إسرائيل تُجبَـر على وقف العدوان بعد فترة محدودة نسبيًا مع تدخل المجتمع الدولي والوسطاء العرب للتوصل لوقف إطلاق النار وإعادة الإعمار وإبرام صفقات لتبادل الأسرى.
كانت حسابات السنوار ورفاقه صحيحة لو أنّ وحدات النظام العربي والإقليمي عملوا طبقًا لمصالحهم وطبقًا لما هو متوقع منهم.
حسابات المقاومة كانت تتوقع أنه تحت التدمير والقتل الواسع للغزاويين من قبل العدو المجنون ردًا على إهانته وإذلاله وفقدانه جزءًا كبيرًا من قيمته الاستراتيجية وثقة ربيبه الأمريكي فيه بعد إخفاقه المريع في ٧ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ستنفجر الشوارع والشعوب العربية وتضع ضغطًا هائلًا على حكوماتها المُختطف قرارها أمريكيًا لاتخاذ خطوات ومواقف تضغط فيها على واشنطن فتضغط بدورها على إسرائيل لوقف الحرب ودخول المساعدات.
تفعيل "وحدة الساحات" كان جزئيًا بسبب الحذر الإيراني من التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة
لم تتحقق هذه الحسابات، إذ قمعت الحكومات التحركات الشعبية بالقمع تارةً والاحتواء تارةً أخرى بمقادير مضبوطة كانت تتغيّر من وقت لآخر لتتكيّف مع درجة غليان الشارع وهو ما يشير إلى استراتيجية تنسيق أمني بين أجهزة الأمن العربية مع مثيلاتها المتقدمة في أمريكا والغرب.
حسابات المقاومة أيضًا توقعت أنّ العدوان الهمجي سيقود لتفعيل كامل لـ"وحدة الساحات"، أي تداعي جبهات المقاومة الأخرى لغزّة تداعي السهر والحمى، ولكن التفعيل كان جزئيًا - باستثناء الساحة اليمنية - سواء بسبب الحذر الإيراني من التورط في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة وقد كشرت عن أنيابها بإرسال حاملات الطائرات إلى المتوسط والخليج والتي صاحبتها نظرية ردع تقول إنّ بعض صواريخها قادرة على تدمير ٤ مدن إيرانية كبرى في دقائق معدودة، وهو حذر تمت الإشارة إلى أنّ العرب لعبوا دورًا متواطئًا في بلورته لدى طهران وتحركوا كسفراء لواشنطن بضرورة أن تقوم إيران بكبح جماح حلفائها ومنع إشعال كل الجبهات.
ساعد العرب في الحيلولة دون تحوّل الحرب لحرب إقليمية شاملة تعجز إسرائيل عن خوضها في وقت واحد وساعدوا أيضًا في عدم توقف الحرب، فلم تجد أمريكا أو إسرائيل أنّ العرب تجرأوا على استخدام ورقة ضغط واحدة مما لديهم يجعلها مجبرة على الضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
الأخطر أنّ العرب لم يسمحوا عبر حدود لهم مع غزّة والقطاع من دخول قطعة سلاح واحدة للمقاومة تستعوض به خسائرها بينما رابع أكبر جيش في العالم وفي مواجهة بضعة آلاف من المقاومين بأسلحة بسيطة يتلقى جسر أسلحة يوميًا لا أول له ولا آخر - بعضها يصل من قواعد أمريكية في الخليج والمشرق! - وكانت النتيجة هي استفراد كامل بالمقاومة طبقًا للخطة الأمريكية في تقسيم العملية في غزّة لمراحل ثلاث والتي سار عليها جيش الاحتلال.
ساهم العرب بالخضوع لإرادة بايدن في عدم إيقاف الحرب في انتقال الجيش الصهيوني من المرحلة الأولى في القصف الجوي والمدفعي الذي سوّى غزّة بالأرض، إلى مرحلة الغزو البري بأغلب فرقه العسكرية واحتلال معظم القطاع، ثم المرحلة الثالثة في سحب جزء من الفرق والاعتماد على الألوية واستهداف ما تبقى من البنية العسكرية للمقاومة وبالتحديد التركيز على استهداف قادتها الكبار.
لم يسمح هذا بقتل نحو ثلث المجاهدين وتدمير نصف أسلحتهم من الصواريخ فحسب، ولكن أيضًا بتنفيذ عملية إبادة جماعية وتطهير عرقي للشعب الفلسطيني في غزّة، إلا أنّ الذي صدم بايدن ونتنياهو أنّ المقاومة صمدت بما يتجاوز الخيال البشري وظلت تكبد العدو خسائر فادحة ومنعته من تحرير أسير واحد حيّ ومن الوصول إلى أي من قادتها حيًا.
هنا جاءت النجدة العربية لإسرائيل والنكوص الصريح عن قرار قمتهم عندما سمحوا باستمرار الحصار على القطاع وعدم اتخاذ ما يلزم للضغط على أمريكا لتضغط بدورها على إسرائيل لدخول المساعدات.
تكدست المساعدات حتى أصبحت المجاعة الشاملة سببًا آخر للموت في غزّة إضافة للقصف، كان الجميع يعلم بمن فيهم العرب أنّ فرض المجاعة على غزّة هو أحد توصيات جنرالات أمريكا لهزيمة المقاومة ولجلب نصر لإسرائيل تخفي به سوءة هزيمتها في غلاف غزّة. مع الوقت أصبحت حرب الإبادة وحرب التجويع هما نقطة ضعف المقاومة التي لا تستطيع تجاهل معاناة حاضنتها الشعبية إلى الأبد وتبدأ في تقديم بعض "المرونة".
أي وقف مؤقت لإطلاق النار سيعكس الانبطاح الرسمي العربي لخطة واشنطن في تحقيق نصر كامل لها ولإسرائيل
حشر مليون ونصف المليون من الفلسطينيين في رفح كان كذلك جزءًا من خطة واشنطن لقلب الغزاويين على "حماس"، أما السماح بدخول بعض المساعدات عبر تنسيق إسرائيلي مع رجال أعمال وعشائر فالهدف منه هو تدمير أجهزة "حماس" المدنية والتمهيد إما لحكم عميل أو التمهيد لعودة السلطة بعد فترة انتقالية تشارك فيها دول عربية وتركيا.
لن يعكس أي اتفاق محتمل على وقف مؤقت لإطلاق النار انتصار المقاومة في ٧ اكتوبر/تشرين الأول ولا صمودها فوق ٦ أشهر ولا تضحيات شعب غزّة، وإنما سيعكس الانبطاح الرسمي العربي لخطة واشنطن في تحقيق نصر كامل لها ولإسرائيل وهزيمة كاملة للفلسطينيين والعرب.
(خاص "عروبة 22")