وجهات نظر

مشروع "الولايات المتحدة العربية"

قضيتُ تسع سنوات مراسلًا صحفيًا في الولايات المتحدة أمدّد خريطة هذه الدولة شبه القارة أمامي وأفكّر ما الذي يمنع من تحقيق حلم "الولايات المتحدة العربية"؟

مشروع

المسافة بين الساحل الشرقي للولايات المتحدة حيث تقع ولاية نيويورك مثلًا ومدينة لوس انجلوس في ولاية كاليفورنيا المطلّة على الساحل الغربي تقطعها الطائرة في نحو ست ساعات، وهو ما يماثل رحلة مباشرة من المملكة العربية السعودية في الشرق إلى المغرب في أقصى شمال القارة الأفريقية.

أيام وأسابيع وشهور يمكنك أن تقضيها تجول بسيارتك في كل أرجاء الولايات المتحدة، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا، من دون أن يسألك أحد عن جواز سفر أو تأشيرة.

العلاقات بين الولايات المختلفة والدولة الفيدرالية يُنظّمها بصرامة ووضوح الدستور

فأمريكا هي اتحاد فيدرالي طوعي بين خمسين ولاية، تصلح كل منها أن تكون دولة مستقلة بمعايير الحدود القائمة في منطقتنا العربية والتي لم يكن لنا نحن كشعوب خضعت للاحتلال أي دور في ترسيمها أو تقسيمها.

كما يجمع الولايات المتحدة وحدة التحدث باللغة الإنجليزية، بجانب تنوّع كبير في الحجم ما بين ولايات كبيرة وصغيرة بكل ما فيها من ثقافات ومعتقدات دينية وثروات وموارد طبيعية.

العلاقات بين الولايات المختلفة والدولة الفيدرالية التي تتخذ من "واشنطن دي سي" العاصمة مقرًا لها، يُنظّمها بصرامة ووضوح الدستور الذي صاغه الآباء المؤسّسون للدولة الفيدرالية وقرروا أن يكون عقدًا اجتماعيًا يُمثّل الالتزام به الضمانة الرئيسية لبقاء هذه الدولة الحديثة التي نشأت قبل 247 عامًا.

الطموح القومي العربي أصابه الوهن بعد أن تحوّلت الحدود التي رسمها المستعمرون إلى أسوار فاصلة

وبينما تبقى الولايات المتحدة دولة حديثة في التاريخ، فإنّ الداعين للقومية العربية منذ مطلع القرن العشرين أو قبله بقليل كانوا يمثلّون طموحًا أصغر حجمًا من واقع كان قائمًا على مدى قرون طويلة تمثّل في «الخلافة الإسلامية» والتي لم تقتصر على الدول الناطقة باللغة العربية فقط، بل كانت إمبراطورية عالمية بحق امتدت في آسيا وأفريقيا وبلغت تخوم أوروبا، تستطيع أن تسافر وتتجوّل بين أقاليمها من دون جواز سفر أو سؤال، مع الوضع في الاعتبار أنّ التنقل والسفر لم يكن أمرًا سهلًا في الأساس في زمن الخلافة العثمانية سوى للجيوش، ولم تكن هناك وسائل اتصال حديثة كما هو الحال الآن.

ولكن حتى هذا الطموح القومي العربي الأضيق والذي يبدو أكثر واقعية وإمكانية للتحقق في ضوء وحدة اللغة بين شعوب الدول العربية، أو معظمها، أصابه الكثير من الوهن بعد أن بلغ أوجه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. وتحوّلت الحدود التي رسمها المستعمرون السابقون إلى أسوار فاصلة، وتم تغذية النعرات في كل دولة حديثة ناشئة حتى تحاربت دول عربية تتداخل فيها القبائل والأعراق، وسط قناعة عامة بأنّ الدول الغنية النفطية قليلة السكان لن تدعم قيام مقترح «الولايات المتحدة العربية» لأنّ ذلك سيعني ببساطة أنهم سيخضعون ويشاركون ثرواتهم مع بقية الدول العربية الفقيرة ذات الكثافة السكانية العالية.

وحتى في الدول المتلاصقة المتقاربة كما هو حال ما يُعرف ببلاد الشام، سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، أو بين مصر والسودان وليبيا، والمغرب والجزائر، وكذلك ما بين الدول الخليجية النفطية الأكثر حداثة، تطورت عداءات بلغت أحيانًا حد الحروب والاشتباكات المسلّحة.

الأمريكيون بنوا دولتهم المتّسعة الممتدة على أساس المصلحة الاقتصادية

وبعد الغزو الأمريكي الإجرامي غير الشرعي للعراق واحتلاله عام 2003، ولاحقًا ثورات الربيع العربي في 2011، طفا على السطح البُعد الطائفي والعرقي ليضرب في صميم وحدة بعض الدول العربية حديثة النشأة حتى أصبح ممكنًا من الناحية العملية زيادة عدد أعضاء جامعة الدول العربية بنحو عشرة دول أو أكثر لو تمّ فتح الباب جدلًا أمام إعادة ترسيم حدود تلك الدول بناءً على طموحات شعوبها وانقساماتهم الطائفية والعرقية والقبلية.

الأمريكيون بنوا دولتهم المتّسعة الممتدة على أساس المصلحة الاقتصادية، وكان بناؤهم لشبكة طرق ضخمة وخطوط سكك حديدية ممتدة لبناء هذه الدولة الضخمة التي يفوق عدد سكانها الآن 300 مليون نسمة، وهو ما سمح بخلق سوق هائلة وتجارة واسعة النطاق، مما أدى تدريجيًا إلى بروز قوى عظمى تهيمن ليس فقط على دول أوروبا الاستعمارية القديمة، بل على العالم بأكمله، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق.

هل يمكن لنا كدول عربية أن ننظر لبناء "الولايات المتحدة العربية" من منظور اقتصادي نفعي، وأن نطوّر وثيقة تأسيسية مماثلة للدستور الأمريكي تضمن حقوق الأقاليم المختلفة وتمتعها بثرواتها، وكذلك احترام خصوصياتها الدينية والعرقية من خلال نظام فيدرالي فضفاض؟.

الكيان العربي القومي قادر على حماية مصالحنا في مواجهة تكتلات اقتصادية تتنافس على ريادة العالم

أول لبنات هذا المشروع أن يكون مبنيًا على الأساس الطوعي وليس القسري، مع الإقرار بالتنوّع العرقي والديني القائم في منطقتنا، وكذلك احترام حقوق الإنسان العربي. فالحقيقة الموضوعية أثبتت أنّ حتى الدول القومية التي تبنّت خطابًا عروبيًا تهاوت وسقطت فور سقوط النظام القمعي القوي الذي كان يفرض تلك الأفكار قسرًا على الشعوب.

عدا ذلك سنمضي في الطريق الحالي القائم على تقسيم المقسّم قسرًا، والتورّط لسنوات طويلة في صراعات ونزاعات، حتى ندرك أنّ قيام ذلك الكيان العربي القومي هو القادر على حماية مصالحنا في مواجهة تكتلات اقتصادية نامية تتنافس وتتصارع على ريادة العالم.

في هذا العالم المضطرب، لم يعد هناك مكانٌ للصغار.  

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن