بصمات

الفكر العربي المعاصر: حصارات مركّبة!

يشكو الفكر العربي المعاصر من خصاصٍ كبيرٍ في الاشتغال البحثي على عدّة قضايا، من قبيل الاشتغال في حقول الذكاء الاصطناعي، الاقتصاد السياسي، علم المستقبليات أو علم الاستشراف، أو التأريخ للأفكار والمشاريع، ضمن حقول أخرى، بما يطرح أسئلة مؤرقة عن أسباب هذا التواضع الكمي والنوعي في طرق أبواب هذه القضايا.

الفكر العربي المعاصر: حصارات مركّبة!

صحيح أنّه، على الأرجح، لا يمكن فصل أحد أهمّ أسباب هذه المعضلة عن تواضع مؤشر "اقتصاد المعرفة" في المنطقة العربية، وإن كان هذا المؤشر متواضعًا، فمن باب أولى أن يكون الأمر كذلك مع مؤشر "مجتمع المعرفة".

لكن، بالرغم من وجاهة هذا المُحدّد الموضوعي، ما دام الأمر يتعلّق بمحدّد خارج إرادة الأسماء الفكرية في المنطقة العربية، فإنّه لا يمكن أن يقف أهل النظر العربي في حالة عجز، من أجل الاشتغال على هذه القضايا، بدليل تميّز بعض الأسماء في حقول بحثية، من قبيل عبد الله العروي أو ناصيف نصار أو عبد الرحمن بدوي في الفلسفة، ضمن لائحة عريضة من الأسماء، أو تميّز أسماء موازية في طرق تلك القضايا أعلاه، من قبيل اشتغال الراحل المهدي المنجرة في المستقبليات أو اشتغال الراحل سمير أمين في الاقتصاد السياسي، واشتغال عبد الإله بلقزيز في التأريخ للأفكار والمشاريع، ضمن أمثلة أخرى أيضًا، لكنها نادرة إجمالًا، وهنا مكمن المعضلة.

يبدو الفكر العربي المعاصر هنا محاصرًا رغمًا عنه بعدة تحديات، نذكر منها ما يلي:

ــ هناك أولًا التحدي الذاتي، ويُجسّده التراجع الكبير في الإصدارات النوعية مقارنة مع ما جرى في العقود السابقة، وتكفي هنا مقارنة التفاعلات العربية التي جرت بُعيد صدور مشروع "نقد العقل العربي" للراحل محمد عابد الجابري (صدرت الثلاثية بين 1984 و1990)، أو التفاعلات مع صدور "الإيديولوجية العربية المعاصرة" لعبد الله العروي (صدر في سنة 1970)، مقارنة مع غياب تفاعلات نوعية مع إصدارات العقد الماضي، بل إنّ العديد من أسماء الساحة العربية، والمحسوبة على النخبة الفكرية، صدرت لها عدّة أعمال في العقد الماضي، دون أن نعاين تفاعلات تليق بهذه الأعمال، بصرف النظر عن أسباب ذلك.

التحدي الإقليمي ساهم في تكريس انقسامات وصراعات بين العديد من الأسماء الفكرية العربية

ــ موازاةً مع التحديات الذاتية، هناك تحديات إقليمية، اتضحت جليًا مباشرة بعد اندلاع أحداث 2011، حيث عاينا انقسامًا جليًا في مواقف العديد من الأسماء الفكرية، موازاةً أيضًا مع انقسام الأسماء الدينية، بخصوص قراءة تلك الأحداث وتداعياتها، بين اتجاه انتصر للدفاع عن الدولة الوطنية ضد مشاريع الانقسام والتفكيك، واتجاه آخر، لم يتردّد في الاستنجاد بقوى عالمية، من أجل إسقاط أنظمة حاكمة، كأنّه يصنّف نفسه من حيث يدري أو لا يدري في خانة "أقلام حلف الناتو" العربية، وما أكثر الأمثلة في هذا السياق، وخاصة في الاتجاه الديني.

تواضع مؤشر "اقتصاد المعرفة" سيبقى عائقًا بنيويًا ومفصليًا

ساهم هذا التحدي الإقليمي في تكريس انقسامات وصراعات بين العديد من الأسماء الفكرية العربية. صحيح أنّ هذه الانقسامات كانت قائمة قبل منعطف 2011، لكن بقي هاجس الحفاظ على "شعرة معاوية" حاضرًا بشكل أو بآخر في تدبير تلك الخلافات، والنموذج هنا، ما كان يُصطلح عليه حينها، بفعاليات الحوار القومي الإسلامي، والذي مباشرة بعد اندلاع تلك الأحداث، سوف نعاين ما يُشبه أفول المشروع، حتى إنّه من النادر الحديث اليوم عن أيّ حوار في هذا السياق، وإن كانت أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، فرصة لكي تغذي هذا المشروع، لكن الآثار السلبية لخلافات ما بعد 2011، لا زالت جلية.

ــ نأتي للتحدي الثالث الذي نزعم أنه سيبقى عائقًا بنيويًا ومفصليًا بخصوص تواضع الاشتغال على القضايا سالفة الذكر، أي التحدي المرتبط بتواضع مؤشر "اقتصاد المعرفة"، أي المؤشر الذي كانت اليابان، على سبيل المثال لا الحصر، صريحة في الحسم معه، منذ حقبة الميجي، أي في النصف الثاني من القرن التاسع (من سنة 1868 إلى 1912 تحديدًا)، عندما تبنت حينها اليابان سياسات محو الأمية والترجمة وفتح أوراش البحث العلمي على مصراعيه. حدث هذا منذ قرن ونيف، فالأحرى ما تقوم به اليوم أو ما تقوم به أغلب الدول في محور مدريد ــ أوكلاند.

هذه الإشارات التي تعيق الإنتاج الفكري في المنطقة العربية، غيضٌ من فيض، لكن الإحالة عليها، قصد استحضار تبعاتها، أفضل من صرف النظر عنها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن