صار رتيبًا ترداد أنّ الإنقسام طال صميم هذه المنطقة لتصبح منطقتين، المشرق الواقع تحت الهيمنة الإيرانية وهو اليوم بفعل إيران وأدواتها وحلفائها في حرب ضروس مع إسرائيل بخاصة ومسرحها غزّة والغرب وحلفائه العرب بعامة، مضافًا إليه اليمن المخطوف من الحوثيين المدعومين من إيران. بالمقابل هناك دول الخليج العربي ومعها مصر والأردن والمغرب، ويلعبون أدورًا توفيقية أحيانًا وخجولة ومترددة أحيانًا أخرى. أما باقي الدول العربية، فهي بين الحروب الأهلية مثل السودان وليبيا والصومال، أو أزمات سياسية خانقة مثل تونس، أو جمود قاتل إلى حد الغيبوبة المزمنة مثل الجزائر، والنتيجة واحدة مشهد قاتم لحال التفكك يؤدي تلقائيًا إلى تهافت الحديث عن دور عربي فاعل أو انخراط في عملية إعادة البناء والتأهيل بعد الزلزال.
هذا المشهد لا يمنع التطلّع إلى دول الخليج ومصر والأردن والمغرب طالما أنّ لبنان وسوريا والعراق واليمن مغلوب على أمرها بفعل الخلافات الداخلية والسيطرة الإيرانية، لنسأل هل هذه المجموعة المستقرة منخرطة فعلًا في ما يجري وتسهم بفعالية في رسم مستقبل الإقليم؟
مستجدات حرب غزّة دفعت الولايات المتحدة لرسم إطار واضح للحل السياسي الشامل للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني
من الواضح أنّ السعودية ومصر والأردن وقطر تلعب دورًا نشطًا في احتواء حرب غزّة لا سيما في الجهود الساعية لوقف إطلاق النار وما سوف يكون عليه "اليوم التالي" بعد نهاية الحرب، إنما يبدو جليًا أنها تفتقر إلى رؤية واضحة معلنة لنهاية الحرب الدائرة ولمستقبل المنطقة بعامة. هذا لا ينتقص من الجهود الصادقة التي تبذلها هذه الدول ولا يمكن التقليل من حجم التحديات التي تواجهها، إنما لم تعد الوسائل التي اعتمدت سابقًا صالحة لمعالجة تحديات وأخطار ومتغيّرات هذه المرحلة.
المستجدات بعد حرب غزّة كثيرة، أوّلها أنها دفعت الولايات المتحدة لرسم إطار واضح للحل السياسي الشامل للنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني وحرب غزّة المشؤومة، مبني على "حلّ الدولتين" بالتنسيق والتشاور المستمرين مع الشركاء العرب في الخليج ومصر والأردن، مع الإصرار الأميركي المدعوم أوروبيًا على رؤية "اليوم التالي" للحرب: أرض القطاع فلسطينية، لا تهجير ولا تغيير حدود ولا إقتطاع ومناطق أمنية.
ثانيًا، لأوّل مرّة منذ أكثر من عقد، تعلن واشنطن جهارة مسؤولية إيران عن أعمال حلفائها وأذرعها في المنطقة. ولأوّل مرّة أيضًا، تتظهر التدخلات والأدوار الإيرانية جلية بدءًا مما يتردد عن دورها في عملية 7 أكتوبر ومساندة حلفائها وأدواتها لـ"حماس" في حربها مع إسرائيل لا سيما من لبنان واليمن.
تواجه إسرائيل أخطر أزمة سياسية داخلية منذ نشأتها
ثالثًا، تشظت قدرات إسرائيل العسكرية، إذ تبيّن أنها لا تستغني عن الدعم الأميركي، كما اهتزت سمعتها الدولية وفقدت التعاطف الدولي الذي رافقها منذ نشأتها، وصل حد تمرير الولايات المتحدة لقرار أممي بوقف إطلاق النار في غزّة وإطلاق الرهائن عبر امتناعها عن التصويت، ما أثار جنون بنيامين نتنياهو. إلى ذلك، تواجه إسرائيل أخطر أزمة سياسية داخلية منذ نشأتها تجلت في الاحتجاجات الشعبية غير المعهودة ضد مطالبة اليمين المتشدد بتقليص صلاحيات المحكمة العليا والمرجح أن تعود إلى وتيرتها السابقة فور وقف القتال، في تجاذب غير مسبوق بين اليمين المتعصّب وباقي أطياف المجتمع الإسرائيلي. ومع أنّ هذا التجاذب يعطي نتنياهو هامش مناورة واسع، لكنّ غالبية الإسرائيليين يحمّلونه مسؤولية ما جرى في 7 أكتوبر وينتظرون رحيله. والإشكالية في إسرائيل هي متى وكيف يرحل نتنياهو، وهو صاحب حنكة ومناورات. هل فور وقف الحرب أو إثر استقالة الحكومة وفرط التحالف اليميني. إضافة ذلك، تبرز مشكلة من سيخلفه في رئاسة الحكومة وكيف سيواجه اليمين المتشدد التخلي عن السلطة؟ هل سيبرز الشريك المقتنع بـ"حلّ الدولتين" وإعادة بعض من حقوق الفلسطينيين والعيش معًا كجارين كلّ في دولته؟
سوف تتزايد أيضًا الانقسامات داخل الحكومة الإسرائيلية بشأن مستقبل الإعفاءات من التجنيد لليهود المتشددين، وهي اتجاهات من شأنها إنهاء سياسة الوحدة في الكنيست في زمن الحرب وتنذر باضطرابات كبيرة في البلاد.
رابعًا، تقويض إيران لأربع دول عربية بالكامل: لبنان بات يقتصر على "حزب الله" الذي أخذ دور الدولة، واليمن أضحى ساحة للحوثيين، وفي العراق خطفت ميليشيات "الحشد الشعبي" الحليفة لها أدوار الحكومة. أما سوريا، فهي مغيبة او غائبة وكأنها غير موجودة على الرغم مما يجري فيها وحولها. المفارقة الملفتة أنه في الوقت الذي تُبذل الجهود لإنشاء الدولة الفلسطينية العتيدة سقطت الدول الأربع بفضل إيران.
خامسًا، من نتائج حرب غزّة حتى الآن، إنكشاف حدود وقدرات روسيا في المنطقة وهزال موقفها من إسرائل وممارساتها، إذ عجزت طيلة نحو ستة أشهر من القتل والتدمير غير المسبوق إلا عن تعطيل قرارات مجلس الأمن وحتى أنها نأت بنفسها عن تقديم مساعدات إنسانية فاعلة وبحجم موقع الدولة العظمى الذي تدعيه. أما إذا نظرنا إلى الصين، القوة العالمية والاقتصدية العملاقة، يتبيّن أنّ دورها ليس أفضل من حليفتها روسيا وما تزال تنتظر خلف الباب إنتهاء الحرب ونتائجها.
الترجمة الحرفية لتمكين إيران في الدول العربية عبر البيئات المحلية الحليفة: مزيد من الاضطرابات والنزاعات
كل هذه المتغيّرات تشير إلى جهة واحدة قد تكون فاعلة هي الولايات المتحدة، على الرغم من أنها غير محايدة لا بل منحازة ومترددة ولا تؤتمن بعد تراكم الخيبات من سياساتها في المنطقة. إنما يبدو أنّ ملامح وعي لأهمية مصالحها في المنطقة ولمخاطر إيران ومن وراء إيران من حلفاء تهدد أمنها وأمن شركائها في المنطقة، اقتنعت بأنّ التكيّف مع وضع ما بعد هذه الحرب لا يحل شيئًا، وربما يهيّئ الظروف لحرب أخرى. ويبدو أيضًا أنها جدية فيما تعلنه من خطوط عريضة للحل وما ينقص للانتقال إلى التنفيذ، هو خطة استراتيجية متكاملة بينها والشركاء العرب لحماية أمن المنطقة وتنميتها بالتوازي مع الشروع في "حلّ الدولتين".
هذا التكامل العربي-الأميركي في زمن الجنون الإسرائيلي هو الرافعة الضرورية لأمن إقليمي مستدام يبدأ مع "حلّ الدولتين" والسلام الدائم، ودونه تبقى إيران الرابحة في السياسة بفعل استراتيجيتها المصممة على تفاهمات تكتيكية مع الأميركيين الى حين اقتلاعهم من المنطقة، وبعدهم إسرائيل، والشروع في إكمال المشروع النووي، وتمكينها في أماكن وجودها في الدول العربية عبر البيئات المحلية الحليفة ما يثبتها لاعبًا رئيسًا في الإقليم وترجمة ذلك الحرفية: المزيد من الاضطرابات والنزاعات.
(خاص "عروبة 22")