مراجعات

الدولة في "مصر الثقافة والهوية"

فارس اشتي

المشاركة

يرصد الدكتور خالد زيادة في كتابه الجديد "مصر الثقافة والهوية[1]" تطوّر السياسة في مصر مع تطوّر دور المثقف منذ بداية القرن التاسع حتى اليوم عبر ثلاث مراحل: الإصلاح أو النهضة، الاستقلال وبروز الوطنيات، الأنظمة الوطنية في تسعة فصول: الأزمنة المتغيّرة، دولة محمد علي، الوطنية المصرية، الثقافة والهوية، أفول الحقبة الليبرالية، مصر الناصرية، إعادة كتابة التاريخ، التحوّلات الإجتماعية والثقافية، المثقف والثورة.

الدولة في

ومع غنى الكتاب بالمعلومات عن المثقفين منذ الجبرتي في الموقع والموقف من الشأن العام التي تعطي للمهتم بالسياسة، متخصصًا أو دارسًا أو هاويًا، فكرة عن هؤلاء، وما أكثرهم، في القضايا العامة، ولبها السياسة، فإنّي سأختار الدولة وتطور فهمها عند المفكرين في مصر لموقع مصر في المجال العربي من جهة ولتتبعي فهم الدولة، بحثًا وشغفًا بإعادتها إلى صدارة مواجهة القضايا السياسية الراهنة.

ومماشاة مع الكتاب، لا يتبيّن فهمًا محددًا للدولة في كتابات الجبرتي في المرحلة التأسيسية لتاريخ مصر الحديث، فكانت الدولة القائمة هي الامبراطوية العثمانية التي هزّها الاحتلال الفرنسي، وهي دولة قائمة على الشرع الإسلامي، تبريرًا وإمرةً وممارسةً، وكان المثقفون (العلماء والمشايخ) في خدمتها وتبرير سلوكها وأقصى معارضة لها تقديم النصح للأمراء والسلاطين.

وإذا اعتمدنا مقومات الدولة الحديثة التي عُرفت في أوروبا: أرض وشعب وسيادة بإمرة واحدة وقانون ناظم، لا نجد عند الجبرتي رأيًا في ذلك، لا بل نرى فهمه للوطن، القاعدة في الدولة الحديثة، خارج الحقل السياسي؛ إذ هو أرض الإقامة، لا المنبت ولا الانتماء (ص27) والشعب هو الجماعات الدينية والعرقية (المصرلية، المشايخ العلماء، علماء الأزهر، المغاربة الشوام، النصارى الأروام الدالاتية الارنؤد، القبائل أما الفلاحون فعلى الهامش المزدرى به (ص26). والسلطة هي الوالي المعين المتشارك مع أمراء المماليك وأمراء الأقوام في ممارستها، توافقًا، حينًا، وتنازعًا حينًا آخر.

الخديوي اسماعيل رسّخ ما بناه جده وطوّره في بناء الدولة الحديثة

وبرغم إيفاد رفاعة الطهاوي إلى باريس في العام 1826 وإصداره كتاب تخليص الابريز في تلخيص باريز (1934) وتسلّمه مواقع مهمة (قلم الترجمة ثم ناظر مدرسة الألسن وناظر المدرسة الحربية) في مواكبة تحديث محمد علي للإدارة والجيش، فإنه لم يتطرق إلى الدولة حتى صدور كتابه مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب المصرية والمرشد الأمين للبنات والبنين في العام 1869 وتزامن ذلك مع موفد لاحق إلى باريس في العام 1849 (علي مبارك) الذي شغل مناصب مهمة في عهدي عباس واسماعيل وأهمها مشروع إقامة القاهرة الجديدة ونظارة القناطر الخيرية ونظارة المعارف، وأصدر كتاب علم الدين في العام 1883 الذي تطرق فيه إلى الدولة.

وتعتبر المرحلة التي صدر فيها كتابا الطهطاوي ومبارك، مرحلة مفصلية برأي المؤلف في بناء الدولة، وهي مرحلة حكم الخديوي اسماعيل الذي رسّخ ما بناه جده وطوّره في بناء الدولة الحديثة، إنْ بتعزيز الجيش أو بانشاء المدارس وتوسيع التعليم أو بإقامة المؤسسات السياسية الحديثة.

فاستخدم الطهطاوي كلمة الوطن، وربما لأول مرّة بين المثقفين المصريين، بمعناه الحديث، فمصر هي الوطن وقواعد التمدين تعززت فيه وهي تمدن معنوي ومادي وفق مفهوم المنافع العمومية الإسلامي الذي طوّعه مع المفاهيم الحديثة وذلك عبر التربية، ص56-62.

كما استخدم مبارك "الوطن" بالمعنى الحديث الذي يدين له بالفضل وذلك بفضل بناء الجيش والإدارة والتعليم والتمثيل النيابي، وإليه ينتمي الفرد وآباؤه وأجداده وأبناؤه، ص52-54.

ولم يكن فهم الطهطاوي ومبارك مسلمًا به في عصره؛ إذ كان للشيخ حسين المرصفي في كتابه رسالة الكلم الثمان (1881) رأي آخر فعرض معاني الأمّة، لغةً وأرضًا ودينًا، والوطن كأرض تعمّرها الأمة وكمسكن دون أن يتبنى أي منها ليركز على نقد الفساد والظلم دون أن يسلم بتطويع الحداثة للشرع بل محاولته تطويع الحداثة للشرع، ص 62-64.

وقد أرسيت الدولة في مصر وقامت على ثلاث ركائز:

الأولى: تبلور طبقة من الملّاك ذوي الأصول غير المصرية مع العمد والمشايخ وكانت تشكل مع الإداريين والمجالس التشريعيية والتنفيذية المشرق "وكانوا أشدّ المعبرين عن كيان مصري له شخصية مستقلة"، ص51.

الثانية: بناء قاهرة جديدة ومركزًا إداريًا يمسك به الأداريون والمقاولون، وكان علي مبارك المشرف على المشروع، بدلًا عن المشايخ، ص 47-49.

الثالثة: تكون بيروقراطية حديثة وجيش محترف بدأ مع جده محمد علي.

ولم يقتصر القول على الدولة بهوية مصرية بحتة على مرحلة الإصلاح والنهضة فقد استمرت في مرحلة الاستقلال والليبرالية، وكانت ثورة 1919 إحدى قممها فقال بها المثقفون والمورخون والأدباء فضلًا عن الصحافة والأحزاب التي تأسّست على قاعدتها، رغم التباين في مسارتهم بين ليبرالية واشتراكية والتباين بينهم حول موقع مصر المتوسطي أو المشرقي أو الأفريقي.

فكذا كان مصطفى كامل وأحمد لطفي السيد والمؤرخان محمد صبري وعبدالرحمن الرافعي، وحسين مؤنس وسلامه موسى في مطلع القرن العشرين والأدباء: عباس محمود العقاد وطه حسين ومحمد حسين هيكل، ولم يخرج محمد عبده عن القول السائد بالوطنية المصرية وعدم تعارضها مع الإسلام، وإنْ كان همّه التوفيق بين الإسلام والمدنية الحديثة.

وكان صعود الطبقة الوسطى في ثلاثينات القرن العشرين مؤشرًا على تحوّل في فهم الدولة والهوية المصرية، وكان عام المعاهدة (1936)، حسب عفاف لطفي السيد، نهاية المرحلة الليبرالية وتراجع مثقفيها لصالح الداعية الأيديولوجي، ويمكن أن نضيف خفوت ايديولوجية مصرية الدولة. وتمثل ببروز حركة "الاخوان المسلمين"، كقوة سياسية، قالت بالدولة الاسلامية، وكان لها مثقفوها، محمد رشيد رضا  وطنطاوي جوهري، ودعاتها الكثر، وعلى رأسهم حسن البنا.

 كما تمثّل بتوجه سياسيين (مصطفى النحاس، عبدالرحمن عزام) نحو إدراج مصر في الدائرة العربية فضلًا عن باحثين أولوا قضايا العرب اهتمامًا (راشد البراوي) التي أفضت إلى دعوة مصر إلى قيام جامعة الدول العربية (1945). وقد كان قرار تقسيم فلسطين وحرب 1948 دافعًا أقوى لتوجّه مصري نحو قضايا العروبة.

لم يسلّم الجيش بتسلّم "الإخوان المسلمين" الرئاسة معه فانقلب عليهم وعاد قائدًا للعملية السياسية

ومع التحوّل الكبير في ثورة 1952 في الموقف من خيار انخراط مصر في المجال العربي الذي بلغ إعلان الوحدة مع سوريا في العام 1958 ومشاريع الوحدات اللاحقة، فقد بقي الجيش القوة الدائمة والمتماسكة في الحفاظ على الشخصية المصرية، فأزاح في ثورة 1952 طبقة الملّاك والإداريين الذين أرسوا الدولة المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان هو أحد أدواتهم ليحل محلهم ضباطه ذوو المنابت الطبقية الفلاحية ومتوسطة الحال، ولم يكن المثقفون على سوية واحدة من هذا التحوّل، ومن أتاح له موقعه السابق على الثورة تحفظ (العقاد، توفيق الحكيم، طه حسين)، وتجنّب الآخرون البوح المكلف، أمنيًا.

وكانت هزيمة 1967 وموت عبد الناصر في العام 1970 أحد اسباب انتعاش التوجهات السابقة لثورة 1952 (الإسلامية والليبرالية والفرعونية) مع استمرار العروبية على قاعدة طبيعة الدولة المصرية لا وجودها، واستمر العامود الفقري لها، الجيش، في موقع القائد المعلن الذي لم يسلّم بتسلّم "الإخوان المسلمين" الرئاسة معه فانقلب عليهم وعاد قائدًا للعملية السياسية.

وتوزع المثقفون والباحثون فمال بعضهم إلى الخيار الإسلامي (طارق البشري) وعاد البعص الآخر إلى الخيار الليبرالي (توفيق الحكيم، لويس عوض) وقال البعض الثالث بالخيار الاشتراكي (رفعت السعيد) واكتفى رابع بمصرية مصر (جابر عصفور) ونقد آخرون هذه الخيارات للقول بارتباط الهوية المصرية بالمؤسسات الحديثة التي عرفت مع محمد علي (نللي حنا وخالد فهمي).

وهكذا نستنتج من عرض الدكتور خالد زيادة مواقف المثقفين من مصر من الدولة، كأسّ للسياسة، التسليم بالدولة التي باشر محمد علي بقيامها وأرسى اسماعيل أُسُسها بجيش حديث وبيروقراطة حديثة وإمرة واحدة وقوانين ناظمة، ولم يمس أيّ من المثقفين، على إختلاف اتجاهاتهم وفي المراحل التاريخية المتعاقبة، هذه الكينونة، كما لم يبدلها تعاقب الطبقات التي حكمت، وما شغل المثقفون سياق هذه الدولة وهويتها بين متوسطية ومشرقية وفرعونية وإسلامية وعروبية، أو مصرية وكفى.

ونقض هذا التكوين الذي بدا في الكتاب القول المتداول بقدم الدولة في مصر منذ الفراعنة، فهي فعلًا قديمة (القرن التاسع عشر) قياسًا لنظائرها العربية (القرن العشرين) أما القدم الآخر فلم يكن دولة حديثة، وكان متقطعًا.



 [1]  خالد زياده، مصر الثقافة والهوية، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2024.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن