في الحاجة إلى استكمال مشروع الدولة الوطنية!

بقدر ما يُعَدّ طرح مشاريع التكامل والاندماج العربي طرحًا مشروعًا ينسجم مع التحوّلات الكبرى التي تشهدها الخريطة الجيوستراتيجية العالمية، فإنّه يستدعي طرح أسئلةٍ متّصلةٍ بمدى القدرة على تحقيق ذلك الرهان الحضاري في ظلّ الأزمة البنيوية العميقة التي تكاد تعصف بالدولة العربية الحديثة.

في الحاجة إلى استكمال مشروع الدولة الوطنية!

عندما نتحدّث عن مفهوم الدولة الوطنية في السياق العربي، فإنّنا نستحضر تضحيات أجيال من الوطنيين المعروفين والمنسيين ممّن قدّموا حياتهم فداءً لتحرير أوطانهم من براثن الاستعمار المباشر. ولَئِنْ راجت مصطلحات أخرى قريبة دلاليًا من ذلك المعنى، مثل دولة ما بعد الاستقلال أو دولة ما بعد الاستعمار، فإنّ الإشكال أكبر من أن ينحصر في ما توحي إليه لفظة "ما بعد" التي تسبق كلمتَي "الاستقلال" و"الاستعمار" في مفارقةٍ دلاليّةٍ تشي بحجم الحيرة في وصف طبيعة تلك الدولة.

عدد كبير من القادة والزعماء في العالم العربي لم يتحرّجوا من تبنّي الإرث الاستعماري عندما أُتيحت لهم فرصة اعتلاء الحكم

ليست كلّ المواقف النقدية أو المعارضة لإطلاق صفة الوطنية على الدولة التي تمّ الشروع في بناء مؤسّساتها بعد التحرّر من الاستعمار منتصف القرن العشرين، ذات خلفية إيديولوجية طوباوية مقترنة بتصوّرات هلامية تروم إحياء نظام حكم ديني أو قروسطي، وإنّما استندت إلى مشروعيّة تحفّظها إزاء الفشل التاريخي لتلك الدولة في تحقيق تطلّعات شعوبها في العيش بكرامة وتحقيق الرهانات الكبرى في ما يتعلّق بالنهضة والتنمية والعدالة الاجتماعية والتعدّدية. وهو فشلٌ يُقرّ به حتّى كبار العقلانيين العرب، حيث صنّف جورج طرابيشي نفسه - على سبيل المثال - ضمن "جيل الرهانات الخاسرة".

يمكن استقراء الأعطاب التي لحقت بالدولة الوطنية على أكثر من مستوى. فقد أخفقت في بناء دولة القوانين والمؤسّسات التي يتساوى فيها الجميع على أساس قِيم المواطَنة. ولم يكن ذلك الإخفاق ناجمًا عن قصورٍ في فهم مُدركات الدولة الحديثة وفلسفتها الحقّانية التي تستند إليها. فقد كان بعض الزعماء أمثال الحبيب بورقيبة على اطّلاعٍ مُعمّقٍ بمختلف التيّارات الثقافية والإيديولوجية الغربية، وإنّما كان كلّ ذلك في سبيل صنع الصنم السياسي ضمن رؤيةٍ مخياليةٍ للزعيم الذي لا يُشقّ له غبار باعتباره "ظلّ الله في الأرض".

استحضار البُعد الاقتصادي يساعد في رسم أفق واضح للدولة الوطنية إذا تمّ إدراجه ضمن مشروع التكامل العربي

لعلّ من المفارقات المفسّرة لرثاثة ذلك الوضع وبؤسه أنّ عددًا كبيرًا من أولئك القادة والزعماء في العالم العربي ممَّن عانوا ويلات التعذيب والتنكيل الاستعماري، لم يتحرّجوا من تبنّي ذلك الإرث الاستعماري البغيض عندما أُتيحت لهم فرصة اعتلاء سدّة الحكم، فأبقوا على بعض جلاّديهم السابقين ومنحوهم الضوء الأخضر لتعذيب مُعارضيهم حتّى ممَّن كانوا رفاقًا لهم في الكفاح. وهو مُعطى أثبتته البحوث المصنّفة في دائرة علم اجتماع الشرطة.

بَيْدَ أنّ كلّ ذلك لا يمكن أن يحول دون استكمال مشروع الدولة الوطنية باعتباره فكرةً ومشروعًا لم يكتمل، تمّ تحريف مساره، ويحتاج تعديلًا وتصحيحًا لا سيما في هذا الظرف الدولي الذي تقع فيه المُجاهرة بإعادة رسم خريطة جديدة للمنطقة ضمن ما يُعرف بمشروع "الشرق الأوسط الجديد". لذا يتعيّن عدم الخلط بين انحرافات الممارسات السلطوية والدولة بصفتها كيانًا يحمي الجميع ويقيهم مخاطر التشريد والاندثار والتلاشي. ولِئَن يرى بعضهم أنّ مشروع تلك الدولة قد استنفد صلاحيته ممّا يُحتّم الشروع في بناءٍ جديد، فإنّنا نعتقد أنّ ذلك التصوّر شكل من أشكال العدميّة، إذ من الممكن استكمال مشروع الدولة الوطنية بتوفير مجموعة من السُبُل والشروط.

يستحيل الحديث عن ديموقراطية حقيقيّة في مجتمع مدنيّ ضعيف ومن العسير التطلّع إلى دولة منيعة ببطون خاوية

يُعَدّ الحسم النهائي في طبيعة الدولة العربية أمرًا ضروريًا، إذ لا يمكن أن تكون الدولة في السياق العربي معزولةً عن النسق الكوني. لذا فلا مناصَ من أن تكون دولةً حديثةً مرجعيّتها أُسُس الحداثة السياسية التي من أهمّها التعدّدية، باعتبارها مهادًا أساسيًا لنشر ثقافة القبول بالاختلاف والمغايرة. وهو ما تتطلّبه ثقافة الديموقراطية التي تُتيح التداول السلمي على السلطة والنفوذ، إذ يستحيل الحديث عن ديموقراطية حقيقيّة في مجتمعٍ مدنيّ ضعيفٍ ومخترق، الأمر الذي يستدعي العمل على ضمان استقلالية ذلك المجتمع المدني داخليًا وخارجيًا.

يُمثّل التركيز على المسألة الاقتصادية في سياسات الدولة الوطنية وبرامجها وخطابها مقوّمًا ضروريًا لمعالجة قضايا المجتمع الحقيقيّة. فمن العسير حقًا التطلّع إلى دولةٍ منيعةٍ ببطونٍ خاوية. ومن المؤكّد أنّ استحضار البُعد الاقتصادي من شأنه أن يساعد في رسم أفقٍ واضحٍ لها لا سيما إذا ما تمّ إدراجه ضمن مشروع التكامل العربي على أساس المصالح المشتركة ووحدة التاريخ والمصير.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن