ثقافة

معضلة القراءة في الوطن العربي: "الأمن الثقافي"!

المغرب - حسن الأشرف

المشاركة

لم يعد العزوف عن القراءة في الوطن العربي مجرد ظاهرة ثقافية واجتماعية عابرة، بل صارت أزمة بنيوية وهيكلية خانقة ترتبط بشكل أو بآخر بخيوط أزمة من نوع آخر أكثر عمقًا، وهي أزمة المعرفة التي تخترق المجتمعات العربية.

معضلة القراءة في الوطن العربي:

أرقام يصفها الكثيرون بالصادمة تلك التي تقيس معدلات ما يقرأه الفرد العربي، وبالخصوص ما يقرأه الطفل في الدول العربية، باعتبار أنّ الأطفال هم "رجال الغد"، ما ينذر بتشكل أجيال لا تقرأ حتى لو كانت مسلّحة بكل التكنولوجيات الحديثة والمتطورة.

تكاد تتطابق مظاهر الأزمة المستشرية للقراءة في البلدان العربية، بدليل معدلات القراءة التي تنشرها تقارير متواترة عن واقع القراءة في هذه الدول، ولعلّ أخطرها الإحصائيات التي تفيد بأنّ معدّل ما يقرأه الفرد في الدول العربية سنويًا يناهز ربع صفحة فقط.

أزمة هيكلية

يقول في هذا الصدد الخبير في علوم الاتصال والحوار الحضاري، الدكتور محجوب بنسعيد، في حديث مع "عروبة 22"، إنّ أزمة القراءة في العالم العربي أصبحت "أزمة بنيوية تتداخل فيها عوامل كثيرة وترتبط بأزمات متعددة تستفحل سنة بعد أخرى، وتزداد سوءًا عامًا بعد عام".

وأوضح بنسعيد بأنّ هذه الوضعية أثارت انتباه المهتمين بالمجال الثقافي والمعرفي في الوطن العربي، أفرادًا ومؤسسات، ما دفعهم إلى البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الأزمة التي تتجلى أساسًا في العزوف عن قراءة الكتب والمؤلفات والمجلات والجرائد بمختلف حواملها الورقية أو الإلكترونية، ويكفي التذكير بما جاء في تقرير أصدرته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عام 2023، بخصوص معدّل ما يقرأه الفرد في الدول العربية خلال السنة، وكذلك مدة القراءة عند الطفل العربي التي لا تتجاوز 7 دقائق سنويًا، بالمقارنة مع الطفل الأمريكي الذي يقرأ بمعدل 6 دقائق يوميًا".

وأوضح الخبير نفسه أنّ ما يُنشر في الوطن العربي قاطبة لا يتعدى 1650 كتابًا سنويًا، وهو عددٌ قليلٌ جدًا بالمقارنة مع ما تنشره دول أوروبية وأميركية، ليعتبر أنّ هذه الإحصائيات الصادمة تؤكد تفاقم أزمة القراءة، سواء الحرّة أو الموجهة، وبالتالي تؤشّر على تفاقم أزمة المعرفة في الوطن العربي.

سياقات وعوامل

يُعد فعل القراءة مفتاحًا جوهريًا لعالم المعرفة، وأزمتها ترتبط عضويًا بأزمة المعرفة، فالقراءة سابقة على المعرفة وممهّدة لها، لكنها ليست شرطًا وحيدًا وكاملًا لتحقيق المعرفة التي بها تنضج المجتمعات وتتطوّر البلدان.

ويحاول العالم مواجهة أزمة القراءة الظاهرة في أكثر من مجتمع من خلال تخصيص يوم 23 من شهر أبريل/نيسان من كل سنة يومًا عالميًا للكتاب وحقوق النشر والملكية الفكرية، بغية وضع عملية القراءة في مكانها اللائق والطبيعي في حياة الإنسان كيفما كانت خلفيته ومرجعيته الإيديولوجية ومجتمعه.

ولتشريح أزمة القراءة المستفحلة في الوطن العربي، يرى بنسعيد أنّ الأمر يعود إلى عدة عوامل وسياقات حاكمة، أوّلها انتشار آفة الأميّة في أغلب المجتمعات العربية في ارتباط وثيق بمشكلة تعميم التعليم، والهدر المدرسي، وقلّة العناية بالمكتبات المدرسية، وضعف حضور مادة القراءة في المقررات والمناهج المدرسية.

وثانيها، ارتفاع أسعار الكتب سواء في المكتبات العمومية أو خلال تنظيم المعارض الدولية للكتاب والنشر، والتحوّل السريع نحو الاهتمام بالصورة الثابتة أو المتحركة من خلال الاستعمال الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي ومختلف أنواع تكنولوجيا المعلومات والاتصال الحديثة، بالرغم من أنّ العالم الافتراضي أتاح للمواطن العربي كمًّا هائلًا من المراجع والمصادر المتنوعة باللغة العربية وغيرها من اللغات العالمية.

وخلُص بنسعيد إلى عامل آخر لا يقل حسمًا من سابقيه، هو التأثير القوي لتراجع دور الأُسرة في تحفيز الأطفال على ممارسة عادة القراءة، مقابل تمكينهم من وسائل الاتصال الحديثة، من قبيل الهواتف النقالة واللوائح النقالة والألعاب الإلكترونية.

المعرفة والأمن الثقافي

هذه الوسائل الحديثة التي تحدث عنها بنسعيد هي ما تدرجها الباحثة في مجال الثقافة الرقمية، مريم الصطي، في تصريح لـ"عروبة 22"، ضمن ما أسمته "عولمة المعرفة"، ومفادها أنّ المعرفة، إضافة إلى أنّها أصبحت مُعولمة بشكل كبير، باتت طبَقَا جاهزَا لمن أرادها ولمن لم يرغب فيها، وِفق تعبيرها.

واستطردت الباحثة ذاتها بأنّ "العولمة اكتسحت كل مجال وكل فعل اجتماعي وثقافي وسياسي، ومن ضمنها فعل القراءة، بل جعلت المعرفة تدخل في قالب نمطي جاهز، لا ينفك أن يكون مجموعة نسقيات معرفية متداولة، ينقصها النقد والتحليل والحرية في الإبداع".

ووفق الصطي، فإنّ الذي يتأثر من أزمة القراءة المنتشرة في أكثر من بلد عربي، ليس فعل القراءة وتطوير المهارات الفكرية والانفتاح على تجارب وحضارات الآخرين وحسب، ولكن "يتأثر أيضًا حتى اقتصاد المعرفة بسبب تشكل أجيال تائهة تمتلك من الرقميات ما لم يمتلكه جيل آخر، ورغم ذلك فهي تتخبّط في عتمة الجهل وقلة المعرفة".

كما يتضرّر كذلك من أزمة القراءة ما يمكن الاصطلاح عليه بـ"الأمن الثقافي"، على غرار "الأمن الغذائي" و"الأمن الروحي"، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات الجديدة، مبرزةً أنّ "الأمن الثقافي" لا يقلّ أهمية ومحورية عن الأمن الغذائي "فالغذاء يصلح به الاقتصاد، والثقافة تنصلح بها عقول وأذهان ومهارات الناس".

وتختم الصطي بالتشديد على كون "الأمن الثقافي الذي تؤثر فيه وضعية القراءة والمعرفة، يلتصق بالأمن السيادي لكل دولة عربية، فالثقافة هي سياج وهوية قبل أن تكون فعلًا فكريًا ومعرفيًا يتطلب إعمال الذهن وملكات العقل".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن