لا أكتب هنا عن الرجل، بل عن "العربية"؛ لغة لم يكن ليكون لها مستقبل، في هذا العصر الحاسوبي، لو لم تكن مبادرة، أو مغامرة هذا الرجل، ولو لم يكن جهد وعلم العباقرة العرب الذي نجح أن يأتي بهم من هذا القطر العربي أو ذاك، لتعريب لغة الحاسوب، أو قل لتطويعها للغتنا الثرية المركبة، في زمن ندرت فيه مثل هذه التخصصات سواء في البرمجة، أو اللغويات.
مثلما كان حال الحلم العربي كان حال حلم الشارخ في تعريب الكمبيوتر ضحية للإمبريالية الرأسمالية الأمريكية
لا أعرف إن كان محمد الشارخ، رائد الأعمال والأديب في آن قد اختار لمشروعه العربي الرائد اسم "صخر" استلهامًا لقصيدة الخنساء الشهيرة في رثاء أخيها، ولكني أعرف أنّ الاسم عرفه كل عربي حاول الاقتراب من عالم الحاسوب في ثمانينيات القرن الماضي. عندما نجح الرجل بشركته الوليدة التي حملت هذا الاسم العربي أن يقدّم للأسواق العربية، للمرة الأولى حاسوبًا عربيًا.
ومثلما كانت قصة "صخر" الحاسوب، والشركة، والمبادرة، والمغامرة حافلة بالدراما، كانت قصة الشارخ كذلك.
بالتوصيف الجيلي، إن كان هناك مثل هذا التوصيف، كانت قصة الشارخ "ستينية" بامتياز؛ حبلى بكل التفاصيل والمفاهيم التي عرفها عالمنا العربي ستينيات القرن الماضي، حيث الأحلام كبيرة، والتحديات كبيرة، والنجاحات لا تقل في حجمها عن الانكسارات. وحيث الطبقة الوسطى، التي أتى منها رجل الأعمال الكبير (لاحقًا) هي عماد المجتمع، وعموده الصلب، وحاملة لواء تقدمه ونهضته.
مثل الكثيرين من عرب جيله، تعلّم الشارخ في القاهرة وقت كانت عاصمة العرب، ونقطة التقائهم، وبوتقة انصهارهم.
شهد الانكسار العربي الكبير 1967، وأينعت ثورة الشباب 1968 بذور التمرد الكامنة فيه، والتي يعرف بوجودها كل من عرفه، أو عمل معه.
لم يكن من الغريب إذن أن نرى اسمه على قائمة جماعة "جاليري 68" المنحازة للأدب الطليعي المتمرد، والتي ضمت أسماء مثل أمل دنقل، وإبراهيم أصلان، ومجيد طوبيا، وأحمد مرسي، وغالب هلسا، وبهاء طاهر.. وغيرهم، وأن ينشر عمله الأدبي الأول في العدد الثاني من المجلة التي أصدرتها الجماعة، التي كانت تحاول وقتها البحث عن أفق مختلف للعرب الذين كانوا قد انكفأوا في يونيو 1967، ويبدو أنّ البحث عن أفق مختلف ظل الهاجس الدائم لدى الشارخ، حتى أقدم على مبادرته تلك للبحث مبكرًا - أوائل الثمانينيات - عن حاسوب عربي. أو بالأحرى حاسوب يفهم العربية، كما يفهمها أصحابها "المخلصون لهويتهم".
أحسب أن لا عربي يختلف حول حقيقة أن لا عروبة بلا عربية، وأن لا عربية بلا سيبويه والفراهيدي، وأن لا مستقبل لسيبويه والفراهيدي، وبالتالي للغة القرآن ما لم يَجدها جيل الحاسوب، أو بالأحرى يَجد قواعدها تعمل بسلاسة ويسر على حاسوبه، الذي كان عبر الزمن أن تحول إلى هاتف محمول Smart phone في كل يد. وأحسب أنّ هذا فضل مبادرة هذا الرجل، والذين عملوا معه برامجيًا على التحليل الصرفي، والتدقيق الإملائي، والتعرف الضوئي على الحروف OCR، والقراءة الآلية للنصوص بالعربية الفصحى، إلى غير ذلك من تحديات عملت صخر مبكرًا على المبادرة بالخوض في بحارها اللغوية العميقة، بعد أن نجحت، بلا حدود "قطرية" في استقطاب عقول عربية فذة، مثل الراحل نبيل علي، والمهندسين والمبرمجين أحمد سلام، وإسكندر مرقص، ومحمود المراكبي، وغيرهم ممن لا تحضرني أسماؤهم. وهي مجموعة ربما لم تكن لتجتمع لولا مبادرة وحلم محمد الشارخ.
ويبدو أنّ تجربة صخر/الشارخ "العربية" في نجاحاتها، وإخفاقاتها لم تكن ببعيدة عن التجربة "العربية" ذاتها. فمثلما كان حال الحلم العربي الذي حاول التحليق في منتصف القرن الماضي كان حال حلم الشارخ في تعريب الكمبيوتر ضحية للإمبريالية (الرأسمالية) الأمريكية متمثلة في عملاق التكنولوجيا الأمريكي "ميكروسوفت"، وكذلك في نزقات ونرجسية النظم المستبدة الديكتاتورية متمثلة في حماقة صدام بغزو جارته الكويت (1990).
فمثلما عصف الغزو "الصدامي"، وتداعياته التي لم تنتهِ بعد بالنظام العربي ذاته، كان أن داست أحذيته العسكرية الثقيلة على براعم "النظام العربي" لتشغيل الحاسوب التي كانت تعمل عليها شركة الشارخ (الكويتية) في ذلك الوقت. والحاصل أنه كما استغلت الإمبريالية الأمريكية حماقة الاستبداد العربي متمثلة في ما قام به صدام حسين لترسّخ مكانتها وتواجدها العسكري والسياسي "المهيمن" في المنطقة، استغلت "ميكروسوفت" الرأسمالية ظروف الغزو والتوقف القهري لشركة "صخر" فنجحت في استقطاب اثنين من التقنيين العرب، وحاجتهما الطبيعية في تلك الظروف لمكان عمل بديل وآمن ليعملا لحساب الشركة الأمريكية الكبرى في سياتل مستكملين على ساحل المحيط الهادي البعيد ما كانوا قد بدآه على ساحل الخليج العربي القريب. فما كان من الشارخ (العنيد) بعد أن انتهت الحرب، وعادت صخر إلى الكويت إلا أن ذهب إلى سياتل ليواجه قضائيًا ما اعتبره استغلالًا أمريكيًا لما فعله المستبدون العرب.
التقاضي لم يوقف الشركة الأمريكية عن الاستمرار في الاستفادة بالمبرمجَين العربيّين القادمين من شركة صخر
في ساحة المحكمة الأمريكية التي شهدت النزاع القضائي بين صخر العربية وميكروسوفت الأمريكية لم يقف المحلفون الأمريكيون مع الخصم العربي، سواء حدث هذا لتحيّزات مفترضة، أو لمجرد أنّ الثقافة الرأسمالية التي يعرفونها لم ترَ نقيصة فيما فعلته ميكروسوفت، فكانت النتيجة أن التقاضي لم يوقف الشركة الأمريكية عن الاستمرار في الاستفادة بالمبرمجَين العربيّين القادمين من صخر، ليبنيا على ما كانا قد بدآه في الشركة الكويتية "العربية" التي كانت مغامرة صدام بغزو جارته قد أوقفته.
في بيته القاهري المطل على النيل الذي لم يكن أيامها مهددًا من جار قريب أو بعيد حكى لي الراحل تفاصيل قصته مع بيل جيتس وميكروسوفت. وأذكر أنني - كمتعصب لـ"أبل"؛ فلسفة وتقنية كما لقصة ستيف جوبز؛ ذي الدماء السورية - انتهزت الفرصة لأعاتبه على أنه لم يستجب أبدًا لمحاولتي المتكررة لإقناعه بأن يُخصّص جهد شركته البرامجي لبرامج متوافقة مع نظام التشغيل "ماك" بدلًا من "ويندوز" (ميكروسوفت) التي سبق أن سرقت نظام تشغيلها من "أبل"، ولأمازحه: "ها هم قد سرقوا جهدك أيضًا، كما فعلوا مع ستيف جوبز من قبل".
رغم مرارته مما حصل، لم يوافقني الرجل الذي كان عنيدًا كالصخر الذي اختاره اسمًا لشركته البرامجية الأولى، ولأجهزة الحاسوب العربية التي عرف بها أبناؤنا طريقهم إلى هذا العالم.
وبعد،،
فقبل رحيله بأسابيع، تكرّم الراحل الكريم باتصال يسألني فيه عن مجلة "وجهات نظر"، ورغبته في أن يضم أعدادها إلكترونيًا إلى مكتبته الإلكترونية الفريدة التي خصّصها لتراث المجلات العربية الرصينة. ثم كان قبل أن ينهي مكالمته بصوت أوهنه المرض أن تمنى عليّ أن تعود "وجهات نظر"، وأسأل الله أن يعينني، في هذا الزمن الصعب، الذي لم يعد الاستقطاب يسمح فيه بتبادل هادئ لوجهات النظر أن أحقق وصيّته.
(خاص "عروبة 22")