وجهات نظر

السلطة والسلطة المضادة: أيقظوا السياسي العربي!

في ظل عالم عربي تزعزعت حدوده وأسسه وأنظمته إلى أبعد الحدود، بالنظر إلى غياب قواعد الاستقرار والانتظام: سلط ذات شرعية وقواعد شعبية ومؤسسات تنفذ حكم القانون، بالإضافة إلى اقتصاد هش خاضع لهيمنة "برجوازية ضعيفة ومهددة على المدى البعيد لسيطرتها على سلعة استراتيجية آيلة للنفاذ في المستقبل (فرحان صالح)"، في مقابل زيادة أشكال التدخل والمخاطر والاستبداد الذي تقوده القوى الإمبريالية للمحافظة على مصالحها وتلافي ما يهددها في المنطقة، كل ذلك سمح بصعود سلطة مضادة جديدة وعلى نحو عالمي.

السلطة والسلطة المضادة: أيقظوا السياسي العربي!

في كتابه "السلطة والسلطة المضادة" حدد "أورليش بيك" بوضوح أوجه التعارض بين السلطة والسلطة المضادة، بما هو تعارض بين "رأس المال" من جهة و"العمل" من جهة أخرى، حيث السلطة المضادة للعامل تتحصل بفعل قدرته على حرمان مالك رأس المال –رب المصنع- من قوة العمل من طريق الإضراب المنظم، هذه السلطة تقلصت تدريجيًا مع دخول العالم مرحلة "الليبرالية المحدثة"، التي قلصت من نفوذ العمال والنقابات، من طريق المكننة والشركات العابرة للحدود، وتقليص دور الدولة في توجيه الاقتصاد الوطني، في مقابل اتساع نفوذ الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، الذين راحوا يفاوضون الدول لتقديم المزيد من التنازلات والإعفاءات الضريبية، مستفيدين بشكل أكبر من سياق العولمة المتزايد، الأمر الذي فرض تشكيلات اجتماعية جديدة من قبيل "الرأي العام العالمي" و"المجتمع المدني العالمي" و"المستهلك العالمي".

انبثاق دور المستهلك العربي والعالمي الذي قرر أن يجعل استهلاكه ذا أبعاد سياسية وأخلاقية

ساهم ذلك في انبثاق شكل جديد من الفاعلين الاجتماعيين العالميين، وخلق نماذج علاقات مغايرة فيما بين السلطة التي انتقلت من الدولة إلى الشركات، والسلطة المضادة التي انتقلت بدورها من العامل إلى المستهلك، هذا الأخير بدوره أصبح مُعولمًا ومطلوبًا جدًا من طرف الشركات العالمية، خاصة في البلدان مرتفعة الدخل، بما فيها بعض البلدان العربية.

يختلف الأمر إذن بالنسبة للسلطة المضادة في المجتمع المدني العالمي، الذي يستند إلى صورة "المستهلك السياسي"، الذي تقوم سلطته المضادة على كونه قادرًا في كل لحظة وفي أي مكان على إعلان امتناعه عن الشراء، من أجل استعادة حقه في التأثير والتغيير وصنع القرار، الذي راحت تسيطر عليه بشكل واضح وعلى نحو عالمي الشركات وليس الدول والحكومات، وقد مهد لهذا النوع من السلوك، بعض الدعوات الإقليمية لمقاطعة منتجات شركات إسرائيلية أو داعمة لإسرائيل كالعلامة التجارية Ariel وCoca وبيبسي وسلسلة مطاعم ماكدونالد و KFC، وسلسلة مقاهي "ستاربكس" وغيرها، لكنها لم تكن ذات حضور يُذكر سابقًا، بالنظر إلى عدم توفر البيئة الشبكية الحاضنة لهذا النوع من السلوك لدى المستهلك السياسي، وكذلك السردية الملائمة لانتشاره وسيلانه من الشبكات إلى المحلات والمطاعم والأسواق، غير أنّ أحداث "طوفان الأقصى" وما تبعها من أشكال عنف وإبادة، في مقابل قصور الشارع العربي على تبني رد فعل ضاغط على الحكومات العربية، والتي ما تزال تعاني تبعات الإجهاد وتوالي المخاطر والكوارث، كل ذلك ساهم بشكل كبير في استدعاء المستهلك السياسي العربي من سباته، خاصة مع تدفق خطابات ذوي القرار السياسي العالمي الذين اصطفوا تباعًا ضد الإنسانية وحقوق أصحاب الأرض، وانتشار حقائق دقيقة حول قيمة الدعم والإعانات المالية التي تقدمها بشكل مستمر هذه الشركات لدعم الكيان الصهيوني ومساعيه من أجل إبادة الفلسطينيين، وقد ساهم ذلك في انبثاق دور المستهلك العربي والعالمي الذي قرر أن يجعل استهلاكه ذا أبعاد سياسية، وأخلاقية من خلال أشكال التضامن العابرة للحدود والأوطان (ترنسناسينالية).

إنّ قرار المستهلك السياسي بالامتناع عن الشراء لا يمكن وضع حد له، لا من طريق العنف (كما في الحركات الاحتجاجية التي تقرر النزول إلى الشارع)، ولا من طريق التهديد بالفصل من العمل أو فرض غرامات أو سحب الجنسية أو غيرها، إنّ الأمر القاتل بالنسبة للشركات وأصحاب رؤوس الأموال هو عدم وجود أية استراتيجية قادرة على مواجهة السلطة المضادة المتنامية عند المستهلكين العالمين خاصة العرب منهم، هؤلاء الذين لا يمكن بأي حال الاستغناء عنهم كما هو الشأن مع العمال أو المهاجرين، أو التهديد بالانصراف للإنتاج في بلدان أخرى.

تحتاج السلطة المضادة عند المستهلكين السياسيين بالعالم العربي للتنظيم ولفاعلين شبكيين مناضلين

مجتمع الاستهلاك هو المجتمع العالمي الذي يتمتع بوجود فعلي، وهذا ما يجعل سلطته المضادة خاصة في المجتمعات السلطوية (العربية منها مثلًا)، التي هي الآن في طور التحوّل بفعل زيادة التداخل والتشبيك بين المحلي والعالمي، شديدة الخطورة على سلطة رأس المال، فإذا كان الخروج إلى الشارع أو الاضراب عن العمل أو التعبير عن رأي مخالف للآراء الرسمية مخاطرة للمواطن العربي، فإنه بالمقابل لا وجود لخطر يلحق به في حالة الكف عن الشراء، ما دامت تتوفر فيه الشروط المطلوبة وأهمها القدرة على الدفع والشراء، ومن ثم إلحاق الضرر بالشركات والمجموعات الصناعية العالمية وفروعها المحلية.

تحتاج السلطة المضادة عند المستهلكين السياسيين بالعالم العربي للتنظيم، ولفاعلين شبكيين مناضلين ينطلقون من الشبكات إلى الواقع ومن الواقع إلى الشبكات، يعتلون المنصات ويهيمنون على الشبكات، ويبرمجون التطبيقات والمحتويات، لمساعدة كل مقبل على الشراء في أي مكان وزمان، على تحديد هوية المنتج، والبلد المصدر، والشركة المنتجة، وإذا ما كانت ضمن الشركات موضوع الامتناع.

ولا يملك المستهلك السياسي العربي إزاء حكوماته وحكامه إلا إمكانيات ضعيفة التأثير، في المقابل هو يتمتع بتأثير قوي إزاء الشركات والمجموعات الصناعية الكبرى الداعمة للكيان الصهيوني أو الصهيونية أصلًا، يكتشف المستهلك السياسي سلطته، هذا المارد النائم، يخرج من غفوته ويحول فعل الشراء إلى تصويت على الدور السياسي للمجموعات الصناعية الكبرى على المستوى العالمي من أجل محاربتهم بأسلحتهم الخاصة: المال ورفض الشراء (أورليش بيك).

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن