وجهات نظر

من "ضبط المعاني" نبدأ

نحتاج ونحن نتعامل مع قضايانا المختلفة إلى أن نكون أكثر تحديدًا للمعاني فيما نتداوله بيننا من مصطلحات ومفردات وكلمات.. نحتاج إلى أن نقتدي في ذلك بفيلسوف اليونان الأكبر سقراط، الذي كان يتمسك بألا يواصل الحديث في أي قضية إلا إذا كان ما يعنيه هو بما يقوله، لا يختلف في شيء عما يعنيه الطرف الآخر معه في الحوار.

من

اهتدى سقراط إلى ذلك مبكرًا، وكان أمله أن يتأسى القادمون من بعده بما وضع هو أساسه، ولكن هذا لم يحدث ولا يحدث في الغالب الأعم، ولا تزال ثلاثة أرباع مشكلاتنا أننا نجلس للكلام، بينما المعاني بيننا فيما نتكلم فيه ليست واحدة، وبالتالي، فليس من الممكن أن نصل إلى حل لما نفتش له عن حل، ولا من الوارد أن نتفق أو حتى نتوافق حول ما يتعين أن يكون محل اتفاق أو وفاق أو توافق، وكلها كما ترى مفردات قريبة في معانيها.

وإذا استعرضنا قضايانا واحدة من بعد واحدة، فسوف يتبيّن لنا أنّ قضية فلسطين في المقدمة منها، وهي كذلك منذ أن قامت الدولة العبرية في ١٥ مايو/أيار ١٩٤٨، ولا توجد قضية استنزفت الكثير من وقت وجهد ومال العرب بمثل ما استنزفتهم هذه القضية، وكأنّ العقل الذي خطط لزرع إسرائيل في هذه المنطقة من العالم كان يقصد هذا بالضبط ويريده.

لماذا فضّلنا مصطلح "غلاف غزّة" ولم نعتمد عبارة "مستوطنات غزّة" ونستخدمها منذ البداية؟

ولا يزال الجزء الأكبر من أسباب تعثّر الوصول إلى حل في هذه القضية، راجعًا إلى أنّ ما يعنيه الطرف الآخر في مساعي حلّها، سواء كان طرفًا إسرائيليًا مجردًا، أو كان طرفًا غربيًا في العموم يختلف عما يعنيه الطرف الفلسطيني خصوصًا أو الطرف العربي عمومًا.

إنني استعرض أمامي مراحل الحرب على قطاع غزّة، منذ أن أطلقتها حكومة التطرّف في تل أبيب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى اليوم، فأكتشف أنها لا تخلو منذ قامت مما أشير إليه من بداية هذه السطور، وأنها قد شهدت إطلاق مصطلح أخذه الإعلام وراح يردده، وبغير أن يلتفت إلى أنّ عليه أن يتبيّنه جيدًا، لعلنا لا نسقط في الفخ الذي تريده حكومة التطرف في إسرائيل.

هذا المصطلح هو "غلاف غزّة" وقد جرى ذكره كثيرًا في بدايات الحرب، وكان إعلامنا العربي لا يتوقف عن الإشارة إلى أنّ الحرب على القطاع قد بدأت بعد "طوفان الأقصى" الذي أطلقته "كتائب عز الدين القسام" على "غلاف غزّة" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

كنت أتأمل هذا المصطلح في بدايات استعماله، ثم ترديده، فلا أفهمه ولا أستسيغه ولا أهضمه، وكنت أبحث له عن معنى يكون واضحًا فلا أجد، وقد اتضح أن غلاف غزّة هو المستوطنات الإسرائيلية المجاورة للقطاع، وأنّ هذه المستوطنات هي التي وقع عليها هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول.

لماذا لم نعتمد عبارة "مستوطنات غزّة" ونستخدمها منذ البداية، ولماذا فضلنا عليها مصطلح "غلاف غزّة" مع أنّ المصطلح غامض، ومع أنّ العبارة في المقابل واضحة، ومع أنّ الوضوح شرط مهم من شروط استيعاب ما نتداوله من كلمات ومصطلحات؟.

هذا مجرد مثال لما نستخدمه في بورصة تعاملاتنا اليومية، ولم نفكر ولو مرّة في أن نبدد غموض المصطلح بأن نستخدم بدلًا منه العبارة الأدق في تقديم المعنى، وفي توصيله إلى المتلقي، وفي تحديده وسط إطار.

لو أننا سمينا الأشياء بمسمياتها فهذا هو أول الطريق

وليس هذا هو المثال الوحيد، لأنّ هناك إلى جانبه مصطلحًا آخر هو "المستوطنين" الذي يقال ويتردد أيضًا، وبغير أن نفكر في أن نستعمل ما هو أدق في التعريف، وفي الوصف، وفي التقديم إلى المتابعين.. فليس سرًا أنّ المستوطنين هُم المحتلون، وأنّ المستوطن في الضفة الغربية مثلًا، هو الإسرائيلي المحتل الذي استولى على هذا البيت، أو ذلك المكان من أصحابه الفلسطينيين، ثم راح يتصرف فيه تصرف المالك!.

كثيرًا ما تمنيت لو أننا تكلمنا عن المحتلين لا عن المستوطنين، وكثيرًا ما تمنيت لو أننا سمينا الأشياء بمسمياتها، فهذا هو أول الطريق، ولا يمكن أن نقطعه وصولًا إلى غايتنا في هذه القضية، إلا إذا تخلصنا فيها مما ليس اسمًا على مسمى، وإلا إذا كان ضبط المعاني نهجًا نتبعه فلا نفارقه، ونسير على هدًى منه فلا ننحرف عنه ولا ننجرف إلى سواه.

هذه مجرد عيّنة من بين عيّنات، ولا شيء أدعو إليه إلا أن نحتاط ونحن نتداول ما يقال، وإلا أن نتحرى الحذر ونحن نتعرض لقضايانا كلها، حتى لا نقع فيما لا نتحسب له ولا نتوقعه.. وقد أبدعت الذائقة المصرية الشعبية عندما قالت ولا تزال تقول "اللي أوّله شرط آخره نور".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن