الأصل في القضية أن هناك برنامجا تم تطويره في وحدة للذكاء الاصطناعي في الاستخبارات الإسرائيلية منذ عدة سنوات، يطبق خوارزميات معقدة لتتبع الأشخاص المنتمين لحماس أو المتعاملين معها وفقا للمعايير الإسرائيلية، واعتبارهم أهدافا مشروعة للقتل المباشر، ويطلق عليه منظومة «لافندر» والتي أعطى لها الحق في إصدار قرارات بقتل أشخاص مشتبه بهم يمكن التحقق منها في الأحوال العادية، بيد أن الأمر اختلف جذريا في حالة العدوان على قطاع غزة، فقد أصبحت قرارات المنظومة الآلية غير قابلة للمراجعة البشرية، والذي يقوم البشريون بتطبيقه فورا بالرغم من ارتفاع نسبة الخطأ إلى ما يزيد على 10%. وهو يمثل تطبيقا من تطبيقات الذكاء الاصطناعي الفائقة نظرا لاعتماده على كم هائل من المعلومات حول أشخاص عاديين او أعضاء في حماس أيا كانت رتبهم القيادية.
غير ان استخدامه في العدوان الإسرائيلى المستمر على قطاع غزة أثبت أنه ليس تطبيقا ذكيا بأي قدر، بل هو تطبيق غبي، محمل بنسبة كبيرة من الأخطاء التي سمحت بارتكاب مجازر جماعية لمدنيين ليسوا على أي علاقة بحركة حماس، ومع ذلك تم اعتماد قراراته بصورة آلية من العناصر البشرية التي تقوم بتفعيله، ولم يكن لديهم أي قدرة على مراجعة قرارات الآلة أو التمعن فيها، بل فقط إصدار الامر بالهجوم على العنصر الذي تم تحديده آليا كعنصر ينتمي لحماس او لحركة الجهاد في غضون 20 ثانية فقط، دون أدنى اكتراث هل العنصر الذي تم تحديده ينتمى فعلا لحماس، او يمثل قيادة ما، كما لم يتم الاكتراث بالعناصر المدنية البريئة تماما التي يمكن ان تقتل في حال الهجوم على الشخص الذي حددته الآلة «الغبية» كهدف حمساوي مشروع، ومن هنا اصبح استخدام ما يعرف بالقنابل الغبية امرا عاديا لدى الجيش الإسرائيلي، والتي من شأنها ان تدمر مباني بكاملها على ساكنيها ما دام ان فيها عنصرا من رتبة بسيطة للغاية تعرفه الآلة كمنتسب لحماس او لجماعة مقاومة.
استخدام «الغباء الاصطناعي» الإسرائيلي الموسوم «لافندر» على هذا النحو يرجع إليه ارتفاع عدد الشهداء والحجم الهائل من التدمير للمباني والمربعات السكنية بكاملها، كما يوفر حججا قانونية دامغة بأن إسرائيل ارتكبت بالفعل جرائم حرب متعمدة ولا تخلو من معايير حرب إبادة منهجية ضد الشعب الفلسطيني.
ما سبق هو تلخيص مركز لما ورد في تحقيقين صحفيين نشرا في الأيام الثلاثة الماضية. أحدهما نشر في موقع إسرائيلي تابع لمجلة (972+) بالاشتراك مع موقع (لوكل كول) العبري، والآخر في جريدة «الجارديان» البريطانية. التحقيقان يستندان إلى شهادات ضباط الاستخبارات الإسرائيلية وقادة عسكريين قاموا بتفعيل منظومة «لافندر» الغبية والقاتلة، والتي حددت 37 ألف هدف مشتبه به وفقا للمعايير الإسرائيلية. بعضهم فسر الامر بأن الأوامر السياسية العليا كانت تصرخ في وجوههم وتفرض عليهم قتل أكبر عدد ممكن من المشتبه فيهم بغض النظر عن الآثار الجانبية الاخرى سواء قتل أعداد كبيرة من المدنيين أو تدمير مربعات سكنية بكاملها، استنادا لوجود قرار آلي بأن عنصرا حمساويا قد يكون موجودا فيها مع عائلته وتم رصده عبر محادثة هاتفية ما.
التحقيقان يمثلان وثيقة دامغة بأن المنهج الإسرائيلي في الحرب اعتمد مبدأ القتل العشوائي والتدمير بلا قيود، والتخلي عن قواعد التناسب بين التمكن من هدف محدد له قيمة، وبين الآثار الجانبية التي يمكن ان تنجم عن الهجوم على هذا الهدف أيا كانت رتبته في الحركة المستهدفة، مع التخلي ايضا عن مراجعة لما يعرف بقيمة الهدف نفسه الذي حددته الآلة الغبية. وكثير من هؤلاء العسكريين برروا الامر أيضا بأن رغبة الانتقام الموسع كانت دافعا لعدم اتخاذ أي قرار يخالف ما تقره الآلة، حيث لم يكن لديهم سوى التصديق على قرارها والأمر بالتنفيذ في غضون 20 ثانية فقط.
من جانب آخر، يطرح التحقيقان الكثير من الاشكاليات القانونية والفعلية التي تنتج عن استخدام تطبيقات توصف بالذكاء الاصطناعي ولكنها تسلب من العنصر البشري القدرة على اتخاذ القرار المنطقي السليم، حيث يتحول البشر الى منفذين تابعين وليسوا أصحاب قرار، ما يولد نتائج كارثية، وهنا يتبلور نموذج عملي للنتائج الكارثية التي تنتج عن الاعتماد الكلي على تفكير آلة تتخذ قراراتها بدم بارد ولا تتحمل أي مسؤولية عن أخطائها وكوارثها الفعلية، ولا يمكن محاسبتها إطلاقا.
الجانب الآخر والمهم يتعلق بالجانب القانوني الذي يتحمله هؤلاء القادة الذين تخلوا عن أبسط القواعد الانسانية، معتقدين أن التزامهم بقرارات الآلة سوف يعفيهم من المحاسبة. وتلك في حد ذاتها تعد واحدة من إشكاليات تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي تبحث وفيها الكثير من الاجتهادات النظرية المتناقضة. والأقرب الى المنطق السليم أن الاستناد إلى قرارات الآلة أيا كانت درجة ذكائها الاصطناعي لا يعفي العنصر البشري من المسؤولية، فالخوازميات التي تطبقها تلك الآلة هي من صنع بشري اصلا، ولا تخلو من انحيازات مسبقة، ومحملة بالأخطاء. وبالتالي فقراراتها ليست سببا لغياب المحاسبة القانونية للعناصر البشرية التي تنصاع لتلك القرارات دون تفكير وتمعن، وفي حالة العدوان على غزة واستنادا الى ما ورد في التحقيقين المشار إليهما وشهادات القادة العسكريين، فمن اليسير توجيه اتهامات ارتكاب جرائم حرب لهؤلاء والمستوى السياسي الذي وجه بتنفيذ قرارات الآلة دون مراجعة قراراتها. وقد اثبت التحقيقان بوضوح كامل ان الهدف الإسرائيلي هو قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين ايا كانوا. فضلا عن تدمير كل سبل الحياة بلا رحمة. انها جريمة إبادة جماعية متعمدة يندى لها جبين البشرية.
("الأهرام") المصرية