لا شك أن التسلية هي أحد الإمكانات التي تتيحها الشبكة لمستعمليها إذ إنها تفتح أمام "المبحر" آفاقًا عديدة لإشباع رغباته في التماس المتع الذهنية (أفلام سينمائية، مباريات رياضية فعلية وأخرى متوهمة تجعله في حال تنافس مع خصم افتراضي، مباريات يدخل فيها المبحر مع خصم افتراضي ينازله في لعبة الشطرنج أو في كرة المضرب وما شاكل دلك).
التسلية هي المجال الأقل أهمية مقارنةً بما يُطلب من الشبكة من أمور تتصل بالمعرفة والإرشاد
غير أن "التسلية"، وان اتسع مدلولها وتشعبت عوالمها، لا تمثل، في نهاية الأمر، سوى بعض يسير مما في وسع الإنترنت أن يمدّ به المستعمل أو لنقل إنّ التسلية هي المجال الأقل أهمية بالنسبة لمئات الملايين من رواد عالم الشبكة في مختلف بقاع العالم متى قورن بما يطلب من الشبكة أن تمدّ به المستعملين من أمور تتصل بالمعرفة والإرشاد في مختلف الأمور والقضايا التي تتصل بالحياة العملية (معارف مختلفة، إرشادات تتصل بأمور عملية وأخرى تقنية دقيقة) وبالجملة، فقد أصبحت محركات البحث الضخمة (ولعل غوغل أو العم غوغل كما يُسمّى تحبّبًا) هي المرشد المعين والمسعف، بل إنها "المنقذ من الضلال" والدليل الذي لا يمكن الاستغناء عنه في السفر والحضر. فعلى سبيل التمثيل: يستطيع، كل من شاء ذلك، بالاعتماد على "وصفة" application في هاتفه النقال أو الجوّال أن يصل إلى متجر أو إلى غيره من الأماكن التي يرغبون في الوصول إليها في سهولة تامة.
كنتُ، في حديث سابق، قد أشرتُ إلى أنّ دول العالم العربي، بكيفية تصاعدية مند منتصف تسعينيات القرن الماضي، تدخل في عداد دول العالم الأكثر توافرًا على وجود مستعملي الإنترنت، وهي كذلك أيضًا من حيث انتشار "التغطية" بالشبكة وتوافر المواطنين على الهواتف الذكية. كما أنني، في الحديث نفسه (وقد وقفت عند نتائج بحث ميداني كبير في المغرب تعلّق بالإنترنت ومستعمليه) كنت شديد الدهشة أمام النتيجة الصادمة التي انتهت إليها الدراسة الميدانية المشار اليها. كان جواب ما يفوق 90% من المبحوثين أنّ الهدف الأول من استعمال الشبكة هو التسلية وتزجية أوقات الفراغ. والحق أنني أجيز لنفسي أن أدّعي أنّ مثال المغرب، من جهة الهدف المرجو من استعمال الشبكة هو التسلية والترفيه، يقبل التعميم على كل العالم العربي. لست أمتلك معطيات علمية تجيز لي الاطمئنان إلى صدقية هدا الزعم، غير أنني أصدر فيما أزعم من ملاحظة بعض أنماط سلوكنا في التواصل الاجتماعي ولعلّي أكتفي في دلك بمؤشرين اثنين أرى أنّ كلًا منهما يحمل رسالة قوية واضحة.
كل أحد من أفراد الأسرة مشدود إلى عالمه الافتراضي... ووجوده أصبح "تواجدًا" أكثر منه "وجودًا"
أزعم أنّ أعداد الهواتف الذكية في البيوت العربية غدا، في الحد الأدنى من القول، موازيًا لأعداد أفراد الأسرة الواحدة داخل كل بيت. غير أنه قد أصبح من المعتاد اليوم أن ينصرف كل أحد من أفراد الأسرة إلى العالم الذي يُبحر فيه، فهو مشدود إلى عالمه الافتراضي وبالتالي فهو منتزع من عالم الأسرة الواقعي انتزاعًا. يصح القول إنّ الوجود، داخل الأسرة الواحدة، قد أصبح "تواجدًا" أكثر منه "وجودًا". بيد أنّ ظاهرة جديدة مثيرة، غدت تستوجب الانتباه اليه.
لا يزال "المقهى" في عالمنا العربي يُشكّل ظاهرة اجتماعية قوية، بل لعلّ هده الظاهرة لا تزال حتى يومنا تُشكّل إحدى العلامات التي تميّز المجتمع العربي عن غيره من المجتمعات في البلدان الصناعية والمتقدّمة إجمالًا. فالمقهى أو، بالأحرى، "قعدة المقهى" مع الرفاق والأصدقاء طقس يتكرّر عدة مرّات في الأسبوع بل إنه - لدى الكثيرين - نوع من الإدمان ومجال للتواصل وللترويح عن النفس. وما قلتُه عن الأسرة أعلاه، ينطبق على "قعدة المقهى" ويحمل على طرح السؤال المتعلق بالتواصل والتسلية والشبكة والإدمان.
(خاص "عروبة 22")