أصبحت هذه المشاكل تتطلب جهودًا مستدامة وتوازنات سياسية مفروضة تُؤطّرها الأسئلة التّاليّة:
ما هو مآل الاستقطاب السياسي المحموم لدول الجنوب من طرف القوى الدّولية الكبرى؟ هل ستتمكن الصين من التغلب على صعوباتها الاقتصادية والاجتماعية وتنجح في أن تكون القوة الاقتصادية السائدة في العالم؟ هل ستكون الولايات المتحدة قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والدولية التي تواجهها بطريقة تسمح لها بالحفاظ على موقعها المتميّز في التوازن الدولي؟.
وهنا يأتي سؤالنا المركزيّ، هل سيتمكن العالم العربي من تحويل أزمة غزّة إلى فرصة لتعزيز موقعه وتأثيره العالمي؟ في هذا السياق الأوسع، يجب أن يتم النظر في مستقبل منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي بخاصّة، أخذًا بعين الاعتبار الموقع الاستراتيجي للمنطقة بما فيه حيازتها لأهم طرق النقل والعبور في العالم، وامتلاكها لأكبر احتياطيات الهيدروكربونات في العالم.
غلب فساد الحكم على المصلحة العليا للعرب
لا بدّ من التّأكيد على أنّ ضياع فرص نجاح البلاد العربية يعود إلى سببين: أحدهما داخلي يعود إلى طبيعة أنظمة الحكم فيها، والثاني خارجي أبرزه تدخّل القوى الخارجية التي جعلت من احتلال فلسطين عن قصد سببًا لانهيار السلام والاستقرار في كلّ منطقة الشرق الأوسط. هذان السّببان هما الأَبْرَزان في واقع التخلّف ومأساة الإنسان العربي.
ووفقهما لم تنجح محاولات حل مشكلة فلسطين وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير المصير من خلال إقامة دولة مستقلة. التاريخ مليء بالأدلّة والفرص الضائعة؛ أهمّها فشل الدول العربية في الاستفادة من حرب 1973 لتحديد مسار لا رجعة فيه نحو تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي.
هنا يجب أن نضع مقارنة بين وضع العالم العربي في أعقاب حرب أكتوبر 1973 وبين الأحداث التي وقعت منذ السابع من أكتوبر 2023. فإذا كانت حرب 1973 قد أدّت إلى توحيد العرب بطريقة غير مسبوقة، عبر تذويب الخلافات التي أبقت الدول العربية متباعدة في الخمسينيات والستينيات وإفساحها المجال للعمل الموحّد الذي كان سببًا في إنتاج معجم سياسي تاريخي، كان له دور قويّ دعّم الأطروحة العربية وإجبار المجتمع الدولي على الانتباه إلى واحد من أكبر مظالم العرب. وبالرّغم من أنّ الدول العربية في تلك السّنة كانت مصدرًا هامًا للطاقة إلى أسواق العالم، فهي لم تكن مدمجة في الاقتصاد الدولي. لكنّ القصّة أنّ العرب في ذلك الوقت، لم يكن لديهم نهج مشترك لتحقيق السلام مع خصمهم الرئيسي، إسرائيل، فغلب فساد الحكم على المصلحة العليا للعرب من خلال تسويات نفعية ضد القضيّة الفلسطينية.
من خلال نتائج العدوان ضدّ غزّة يمكن للعرب التّأثير في المجتمع الدّولي واستعادة الحق المهضوم لفلسطين
يمكن للعالم العربي في عام 2024، أن يتجاوز أخطاء الماضي وأن ينتهز فرص النّجاح المتوفّرة لديه. فالبرّغم من أنّ إسرائيل قد أصبحت أقوى اقتصاديًا وعسكريًا، فإنّها في حربها الأخيرة ضدّ غزّة قد انهزمت أخلاقيًا وسياسيًا وعسكريًا، وسقطت الصّورة المظلّلة التي رسمتها لنفسها، ما يجعل العرب الآن يتوفّرون على إمكانات أكبر مقارنة بعام 1973 للتأثير ليس فقط على مستقبل المنطقة، في ظلّ الهيمنة السياسية لتركيا وإيران في المنطقة وهو الأمر الذي لم يكن متاحًا لهما في 1973، ولكن أيضًا في كل النظام الدولي المتطوّر، ذلك أنّ الانقسامات الأيديولوجية بين العرب التي كانت موجودة خلال الحرب الباردة لم تعد قائمة وأصبحت لديهم علاقة أكثر توازنًا مع الفاعلين الرئيسيين في الساحة الدولية، بحيث قد قلّت اعتماديّتهم على الولايات المتحدة بشكل كبير، بما في ذلك دول الخليج، وتطوير علاقات بديلة وسريعة مع الصين وتعاون استراتيجي مع روسيا خصوصًا في مجال الطاقة والأسلحة، فضلًا عن الانفتاح الواسع على الإتحاد الأوروبي.
من خلال هذه المداخل الجيوسياسية المستجدّة، ومن خلال نتائج العدوان ضدّ غزّة، يمكن للعرب التّأثير في المجتمع الدّولي واستعادة الحق المهضوم لفلسطين.
(خاص "عروبة 22")