معلوم أنّ الجابري اشتهر لدى الجميع بمشروعه العلمي الذي يحمل عنوان "نقد العقل العربي"، والحال أنّنا نجد مشاريع موازية تكاد تحمل العنوان نفسه، لعلّ أشهرها هنا مشروع "نقد العقل الإسلامي" للراحل محمد أركون، إلا أنّ الخوض في مقارنات أولية وبَدَهية بين المشروعين، تساعد المتتبّع على الانتصار لأهمية وجدوى رؤى الجابري مقارنةً مع رؤى أركون، وخاصّة أثناء المقارنة بين تعامل الثنائي الجابري وأركون مع النص القرآني.
في المجال نفسه، أي فضائل الجابري على النخب الفكرية، تكفي قراءة الرسالة الأخيرة التي حرّرها الراحل جورج طرابيشي، والتي أعيد ترويجها رقميًا في مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرًا، وتضمنت إقرارًا صريحًا من صاحب مشروع "نقد نقد العقل العربي" بأفضال الجابري عليه، قائلًا بالحرف: "وإنّي لأقولها صراحة اليوم: إنّي أعترف للجابري، الّذي قضيت معه ربع قرن بكامله وأنا أقرأه وأقرأ مراجعه ومئات المراجع في التراث الإسلامي، ومن قبله المسيحي ومن قبلهما التراث اليوناني وكل ما يستوجبه الحوار مع مشروعه، إنّي أقرّ له، وأعترف أمامكم، أنّه أفادني إفادة كبيرة، وأنه أرغمني علـى إعادة بناء ثقافتي التراثية. فأنا له أدين بالكثير، رغم كلّ النقد الّذي وجّهته إليه".
كانت ثلاثية الجابري حول "نقد العقل العربي" سببًا وراء شروع طه عبد الرحمن في طرق باب الاشتغال على سؤال التراث
يمكن أن نضيف اشتغال طه عبد الرحمن على سؤال التراث، بحيث كانت ثلاثية الجابري حول "نقد العقل العربي"، سببًا وراء شروع طه عبد الرحمن في طرق باب الاشتغال على سؤال التراث، ليصدر كتابًا تحت عنوان "تجديد المنهج في تقويم التراث"، ردًا على رؤى الجابري.
في الشق الخاص بتأثير أدبيات الجابري على بعض إيديولوجيات الساحة، يصعب حصر تلك التبعات الإيجابية أيضًا، ونتوقف عند نموذجين اثنين:
ــ يتعلّق النموذج الأول بالتأثير على المرجعيات اليسارية بشكل عام، حيث إنّ تعامل الجابري مع المسألة الدينية، كانت أحد أسباب حفاظ تلك المرجعيات على شعرة معاوية بخصوص علاقتها بالدين، والنموذج هنا تعامل الحزب السياسي الذي كان ينتمي إليه الجابري قبل الانفصال التنظيمي، أي حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، والذي كانت علاقته بالمسألة الدينية أفضل بكثير من علاقات أحزاب سياسية يسارية أخرى، انتهت تنظيميًا إلى زوال، لأنّ هذه الأخيرة لم تستوعب بما يكفي أنها تشتغل في حقل مجتمعي يتميّز بحضور تأثير التراث الإسلامي، على غرار السائد في أغلب دول المنطقة العربية.
ــ أما النموذج الثاني، فيَهمّ الإيديولوجيات الإسلامية الحركية، ونخصّ بالذكر التيارات الإخوانية، حيث كانت أعمال الجابري بوابة انخراط بعض الأسماء البحثية الإخوانية أو المحسوبة عليها، من أجل الانخراط في ما يُشبه مراجعات بخصوص التعامل مع أسئلة السياسة والدولة والوطن، والنموذج هنا، كتاب جماعي حديث الإصدار في الساحة المغربية، وصدر عن "مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات"، بعنوان "محمد عابد الجابري: أسئلة المشروع وآفاق التجديد"، حيث إنّ أغلب المشاركين في العمل، هم أبناء تلك المرجعية، أو مرّوا من تلك التجربة من قبل.
نأتي للشق الثالث، ويهم حضور أعمال الجابري على أوضاع الساحة العربية، وبالتالي تأثيره على أداء عقل صنّاع القرار، وما أكثر الأمثلة في السياق، أقلّها تأمّل أوضاع العديد من دول المنطقة العربية، بعد عقد ونيف من اندلاع أحداث 2011، أي أحداث "الربيع العربي" حسب البعض أو أحداث "الفوضى الخلاقة" عند البعض الآخر.
ما كشفت عنه أحداث الربيع/الفوضى هو عينُ ما ذهب إليه الجابري
مما ميّز مشروع "نقد العقل العربي"، تدقيق الجابري في ثلاثة محدّدات ميّزت أداء عقلنا الجمعي منذ حقبة الخلافات بين الصحابة حت مطلع القرن الحالي، أي محدّدات العقيدة والقبيلة والغنيمة، وواضح أنّ بعض أقلام الساحة أو العديد منها، تعاملت مع هذا التنظير في حقبة ما قبل 2011، كما لو أنّ المسألة لا تعدو أن تكون ترفًا فكريًا جابريًا، لكن ما كشفت عنه الأحداث نفسها، أي أحداث الربيع/الفوضى، هو عينُ ما ذهب إليه الجابري، من قبيل تأمّل الوضع السياسي في ليبيا، التي تعتبر أهم تطبيق عملي أو نموذج ميداني يُترجم للقارئ ما ذهب إليه الجابري بخصوص تأثير تلك المحدّدات الثلاث دون سواها، لأنّ المحدّد القبلي كان حاضرًا، فالأحرى المحدّد الخاص بالعقيدة (ما سُمّي بـ"فتوى القرضاوي" نموذجًا)، أو محدّد الغيمة.
الأمثلة أعلاه الخاصّة بفضائل الجابري على الحقول الثلاثة، مجرّد غيض من فيض، لذلك الأمر يستحق وقفات بحثية، سواء في صيغة أعمال بحثية جماعية، أو عبر مؤتمرات وندوات.
(خاص "عروبة 22")