قصف القنصلية الإيرانية في دمشق كان التصعيد الأعلى، سيّما وأن التجرّؤ الإسرائيلي على استهداف مقرّ دبلوماسي بحصاناته القانونية الدولية وفقًا لاتفاقية روما، يعني ليس عدم احترام إسرائيل للاتفاقيات والقانون الدولي فحسب، وإنما يعني مزيدًا من تهشيم وهزّ صورة إيران الخارجية المغلّفة بشعارات "تدمير إسرائيل خلال 7 دقائق ونصف" و"سنصلّي في القدس"..
لكنّ بلع إيران المتواصل للاعتداءات الإسرائيلية في دمشق والدواخل السورية المتداخلة مع الحدود العراقية، أظهر نوعًا من الشكّ والوهن في حقيقة الموقف الإيراني تجاه إسرائيل، ما دلّل على أنّ صواريخ إيران الصوتية بتدمير إسرائيل، والتي لا تعدو كونها آلة دعاية وتسويق للنظام الإيراني كرأس حربة مواجهة مع إسرائيل والولايات المتحدة، قد فقدت صلاحياتها لصالح التخادم مع واشنطن منذ غزو العراق الذي نعيش ذكراه الـ21، والذي توّج برقصة نووية بين الخامنئية والأوبامية ثمّ عبثت بها الترامبية، واستتبعها نتنياهو باستهدافه "القنصلية" وكأنه يستكمل ما بدأه ترامب باغتياله "زعيم إيران الخارجية" قاسم سليماني.
بدون أدنى شك، يُعتبر استهداف "القنصلية" أعمق بكثير من تصويره كرسالة تهديد حادّة لـ"حزب الله" وزعيمه حسن نصرالله. فضحايا مقتلة القنصلية هم من الأهداف الرفيعة، التي تلي في أهميتها اغتيال سليماني الذي فشلت إيران في تعويضه حتى اليوم. وجنرالات "الحرس الثوري" الذين قضوا في القنصلية يتقدمهم الجنرال محمد رضا زاهدي، يشكلون عمليًا البنية العملياتية والهيكلية التنظيمية التي سبق وأرساها سليماني وعملت معه، ومستمرة بعده في دمشق تشرف وتدير أنشطة "فيلق القدس" وعملياته المختلفة. بهذا المعنى، ضربة القنصلية، بالنظر لطبيعة وموقع ضحاياها فضلًا عن كونها استهدافًا لسيادة إيران الخارجية، تشكل محطة فاصلة بحسب السيّد نصرالله، سيّما وأنه لا يوجد هدف أرفع رتبة وأعلى منزلة سوى الاستهداف الإسرائيلي لعمق الجمهورية الإيرانية ومفاعلاتها النووية.
استهداف إسرائيل القنصلية ضربة اختبارية تهدف إلى قياس ردّ الفعل الإيراني عليها
ما فعله نتنياهو من خلال الهجوم على القنصلية، هو كسر حالة الرتابة والمراوحة التي تعتري قواعد الاشتباك غير المباشرة مع إيران، سواء باستهداف رموزها وقواتها في سوريا، أو عبر اغتيالات نفذها "الموساد" في إيران ومنها اغتيال أبو القنبلة النووية محسن فخري زاده، فضلًا عن كثير من الانفجارات والتفجيرات الغامضة التي استهدفت مواقع حسّاسة في إيران.
ففي لحظة شديدة التعقيد والحساسية الاستراتيجية الإقليمية استهدفت إسرائيل القنصلية، وفضلًا عمّا حصدته من أهداف ثمينة، فهي ضربة اختبارية تهدف إلى قياس ردّ الفعل الإيراني عليها، وتشبه لحد كبير الضربة الصاروخية "الاختبارية" التي نفّذتها إيران ضدّ باكستان التي سرعان ما ردّت عليها، ما دفع بالرئيس الإيراني ووزير خارجيته للقول إنّ استهداف "الحرس الثوري" لباكستان كان بدون علم الحكومة الإيرانية، وقد شكل هذا التصريح البداية الضرورية لسحب فتيل التوتر مع الجارة النووية باكستان وعودة السفراء.
عبر هذا السياق، علينا النظر إلى الإعلانات المتكرّرة بلسان المرشد علي خامنئي التي تؤكد وبالعبرية الفصحى على "حتمية الردّ" على إسرائيل، وآخرها ما ردّده خامنئي بهذا المعنى صبيحة عيد الفطر. وعبارة "حتمية الردّ" هذه ردّدها كل ساسة إيران وجنرالاتها فضلًا عن زعيم "حزب الله" خصوصًا في "يوم القدس العالمي" الذي شكلت الاحتفالات غير المسبوقة فيه احتضانًا نوعيًا داعمًا للردّ الإيراني على إسرائيل.
حاولت طهران عبر قناة سلطنة عمان الوثيقة مع واشنطن مقايضة الردّ بوضع بصمتها على مستقبل غزّة
وعبر السياق إيّاه، كلنا لاحظ مسارعة الولايات المتحدة لتنصلها من مباركة الضربة الإسرائيلية أو معرفتها المسبقة بها، بخلاف ما أعلنه عبداللهيان من دمشق من أنّ "الولايات المتحدة مسؤولة عن هذه الجريمة الإرهابية ضد القنصلية الإيرانية ويجب أن تتحمل مسؤوليتها"، معتبرًا أنَّ عدم إدانة أميركا ودولتين أوروبيتين للعدوان الصهيوني على القنصلية الإيرانية في دمشق "يدل على أنّ واشنطن منحت الضوء الأخضر لإسرائيل لارتكاب هذه الجريمة". وفي ردّ على ما تستظهره إسرائيل من أهداف الضربة، أكد عبداللهيان أنّ "أمن سورية هو من أمن المنطقة"، وهي العبارة التي ربما يردّدها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في لحظة رسم تضاريس وخطوط النفوذ الجيوسياسية في المنطقة.
غاية نتنياهو من تجاوز حال المراوحة مع طهران، هو استعادة قوّة الردع الإقليمية لإسرائيل والتي انتكست بشكل خطير إثر "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر المجيد، دون أن تفلح ما فعلته آلة القتل والدمار الإسرائيلية في غزّة من استعادة هذا الردع، بدليل فشل الاحتلال الإسرائيلي في تحقيق أهدافه المعلنة وخصوصًا القضاء على "حماس" والمقاومة الفلسطينية وتحرير المحتجزين الإسرائيليين. ولهذا ذهب نتنياهو إلى استهداف الخلية المركزية لمحور المقاومة وتوجيه رسالة دموية عنيفة لإيران وترهيبها عبر قتل جنرالات القنصلية، سيّما وأنّ هذه الخلية التي تنسّق عمليات محور المقاومة من باب المندب إلى جنوب لبنان مرورًا بسوريا والعراق، بيّنت كيف أنّ الكيان الإسرائيلي مطوّق بأحزمة النار التي يرتفع أوارها اتساقًا مع عقيدة "الصبر الاستراتيجي".
فما فعله "المحور" بقيادة إيران منذ الثامن من أكتوبر، هو بروفة إسنادية لمعركة غزّة، لكن فعالية المحور وغزارة صواريخه المجنّحة ومسيّراته المفخّخة ستكون مختلفة عندما تقرّر إيران وضع بصمتها الرسمية المباشرة وتوقيعها على الردّ المنتظر. فالردّ الإيراني الرسمي على الضربة الإسرائيلية سيصنع مشهدًا مختلفًا ويزيد التعقيدات الإقليمية والدولية وهواجس الحرب الإقليمية، ما سيرفع من غليان الشارع العربي في أكثر من عاصمة عربية، توازيًا مع حماسة إعلام التطبيع الإبراهيمي لتحميل المقاومة الفلسطينية و"حماس" مسؤولية تدمير غزّة، علمًا بأنّ السياسات والمبادرات العربية الاعتدالية لم تحقّق "السلام"، ولم تقنع الكيان الصهيوني لا بـ"حلّ الدولتين" ولا بسواه، ما يعني أنّ إيران إذا ما هاجمت إسرائيل قد تملأ الفراغ العربي الذي تأباه الطبيعة، وربّما تضمّ إلى إمبراطوريتها عاصمة عربية خامسة، بمعنى أدقّ أنّ المشروع الإيراني يتقدم على حساب اللامشروع العربي.
البند الأول والدائم في عقيدة "الصبر الاستراتيجي" هو "حماية واستمرار بقاء النظام الإيراني"
قبل تنفيذ الردّ الإيراني على إسرائيل، حاولت طهران عبر قناة سلطنة عمان الوثيقة مع واشنطن مقايضة الردّ بوقف شامل لإطلاق النار في غزّة وعدم اقتحام رفح، مقايضة تهدف إلى وضع إيران بصمتها على مستقبل غزّة وعدم تركه حكرًا للوسيطين المصري والقطري، وفي هذا السياق لا بد من النظر إلى التحوّل في موقف الإدارة الأمريكية الداعية بلسان بايدن إلى وقف فوري لإطلاق النار وإدخال المساعدات والإغاثة فورًا، وهو التحوّل الذي تبرّره الإدارة الأمريكية بمجزرة "المطبخ المركزي العالمي"، فيما يمكن اعتباره صدى للمقايضة الإيرانية المعروضة على واشنطن، وفي حال نجاح نتنياهو بإفشال المقايضة الإيرانية فإنّ "الردّ قادم لا محالة".
فلسفة إيران من فكرة المقايضة، أنّ البند الأول والدائم في عقيدة "الصبر الاستراتيجي" هو "حماية واستمرار بقاء النظام الإيراني"، ولهذا فما تعمل عليه طهران في حال فشلت المقايضة هو ضمان عدم وقوف واشنطن مع إسرائيل في الردّ على الردّ الايراني الذي أكّده جنرالات الكيان كما أكده جنرالات البنتاغون، وعندها ربما تفاجئ طهران العالم بإعلانها تجاوز العتبة النووية وامتلاكها قنبلتها، تلك العتبة التي كانت تبتعد عنها مدة أسبوعين من قبل "طوفان الأقصى" بنحو سنتين.. وعندها لن ينفع الإسرائيليون سحلهم لبنيامين نتنياهو في شوارع تل أبيب.
(خاص "عروبة 22")